لا توجد قيمة لدى الإنسان أهم من كرامته. أليس كذلك؟ فنحن نستخدم هذه الكلمة للتعبير عن الاعتزاز بالنفس، وهي القيمة التي لو سقطت ربما سقط معها سائر القيم. ورغم ترابط القيم، إلا أنه يمكن القول أن الشخص قد يفقد حريته بدون أن يفقد كرامته، وقد يخسر حظه فى المساواة بدون أن يخسر كرامته، ولكن إذا خسر كرامته فلن تسعفه الحرية ولا المساواة. وطوال الوقت نعبر عن اعتزازنا بكرامتنا، فلا نقبل ممارسات أو أفعال أو علاقات نرى أو نستشعر أنها تنتقص من كرامتنا، فيقول الشخص لن أقبل هذا التصرف، أو لن أفعل هذا الفعل أو لن أستمر فى هذه العلاقة لأن “عندي كرامة أو كرامتي ما تسمحليش (لا تسمح لي)”. وكلمة “ما تسمحليش” لها دلالة، حيث تبدو “الكرامة” وكأنها أعلى من إرادة الشخص ورغاباته، فالشخص الذى يحترم كرامته لا يتصرف بعفوية ولكن تصرفاته يجب أن تكون محكومة بشروط كرامته، ولو تعارضت رغباته مع كرامته فإن الكلمة العليا تكون للكرامة.
وغالبا ما نتحدث عن الكرامة وكأنها شئ نمتلكه (أنا عندي كرامة)، ولكنها فى الوقت ذاته هي التى تحدد تصرفاتنا وكأنها تتملكنا. والكرامة مرتبطة بالإنسان حيا وميتا، فكما نتحدث عن كرامة الإنسان فى حياته، فإننا كذلك نراعى كرامة الشخص المشرف على الموت، بل ونراعى كرامة جسده بعد مماته “إكرام الميت دفنه”. والكرامة، التى نمتلكها، لا تُنتزع ولكنها قد تُهان، فقلما نتحدث عن سلب الكرامة مثلما نتحدث عن سلب الإرادة، بل نقول “إهانة الكرامة”. ولكن ماذا تعنى كلمة الكرامة التى لها كل هذه الأهمية؟
لا يوجد تعريف محدد لمعنى كلمة كرامة كقيمة، وبالتالى فإن التعريف المتاح يكون نوعا من الوصف، أى وصف الحالة الإنسانية التي نسميها كرامة. وبهذا المعنى، فإن تعريف الكلمة وفق قاموس المعانى هو “احترام المرء ذاته، وهو شعور بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره”. وهذا بالطبع أحد معانى الكلمة الذى يخصنا فى هذا السياق. ولكن عندما نتحدث عن احترام واعتزاز المرء بذاته وشعوره بالقيمة، فإننا نتحدث عن أمور نسبية تختلف من سياق اجتماعى لآخر. وهناك أشكال عديدة تجعلنا نشعر بالإهانة، ويتفاوت هذا الإحساس من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، بل ربما من شخص لأخر.والأمر يتعلق بالمعايير التى تجعلنا نعتبر أن هذا التصرف أو ذاك يعد إهانة للكرامة، وهذه مسألة تحدده عوامل التنشئة والتربية والأطر الاجتماعية والقانونية. فمثلا قد يقبل شخص نوعية معينة من الكلام أو طريقة معينة فى التعامل ضمن ثقافة معينة بوصفها مقبولة وطبيعية، ولكن فى ثقافة أخرى أو لدى شخص آخر قد يعتبرها مهينة لكرامته. فالمرأة التى تعتبر أن تعنيفها أو ضربها من قبل زوجها أمرا مقبولا ودليلا على رجولته، ليس لديها معيار الكرامة الذى لدى إمرأة أخرى ترى فى هذا الفعل إهانة لكرامتها.
وبالتالى فإن المعايير على درجة كبيرة من الأهمية لتحديد مستوى ما نعنيه بالكرامة، ولكنها تصبح بلا قيمة إذا لم يتم غرسها فى وعى وضمير الفرد والجماعة، ووضع الأطر القانونية والاجتماعية التى تصونها. ولعل الشرط العام لكي تتحقق الكرامة الإنسانية هو ما تعبر عنه هذه المقولة الشهيرة: “تحرر الإنسان من الخوف ومن العوز أو الحاجة”. وهذه المقولة تحدد البعدين الأساسيين لصيانة الكرامة الإنسانية. يتعلق البعد الأول بالنفس الإنسانية والتي تُهان إذا ما تعرض الشخص للتخويف أوالقهر النفسي أوالإذلال، أما البعد الثانى فيتعلق بالجانب المادى الجسدى إذا ما تعرض الإنسان للتجويع أوالتعذيب، أو استخدام جسده كشئ للاستعمال كمادة جنسية أو قوة للعمل القسرى. وتعد العبودية أقصى أشكال إهانة الكرامة الإنسانية حيث يتحول الإنسان إلى مجرد شئ مملوك مسلوب الإرادة. وعندما نتحدث عن العبودية فلا نعنى فقط أشكالها التقليدية، ولكن أيضا أشكالها المعاصرة المتمثلة فى الإتجار بالبشر والدعارة والعمل القسرى، واستخدام الأجساد، وخاصة أجساد النساء، لأغراض سلعية.
وعلى الرغم من أن هناك جدل شائك حول حقوق الإنسان، إلا أن ما يمكن أن نعتبره قيمة كبرى لهذه الحقوق هو أنها تضمن أفضل المعايير المتفق عليها من أجل صيانة الكرامة الإنسانية. وفى الحقيقية أن هذا لا ينبغى أن يسبب إزعاجا لأنصار الخصوصيات الثقافية ممن يعتبرون أن حقوق الإنسان قيما غريبة، فالمسألة لا تتعلق بغربى أو شرقى، ولكن تتعلق بقيمة وجودة المعايير اللازمة لصيانة الكرامة الإنسانية، فعندما تقدم حقوق الإنسان ضمانات للحماية من التعذيب والحق فى الحرية الشخصية والحق فى مسكن وعمل لائق إلخ، فإنها لا تنشر ثقافة ولا تعادى ثقافة، إنما فقط تعادى من ينتهك الكرامة الإنسانية أو يبرر إنتهاكها تحت أى مسمى. ولذا فإننا نعرف جيدا أن الكثير ممن يتهمون حقوق الإنسان بأنها قيم غربية، هم أنفسهم من يتطلعون للعيش فى الغرب، أو إرسال أبنائهم للتعليم أو فى الجامعات الغربية، وإذا سألتهم لماذا تفعلون؟ فإن الاجابة ستكون: لأن هناك مستوى أعلى من احترام الإنسان وصيانة كرامته!!