شريط الذكريات مع أستاذنا صفوت عبدالحليم متخم بالمواقف والدروس والحكايات.. مزيج من حرفية مهنية وخبرة سنين وتجارب حياتية كان شديد الإصرار لأن ينقلها إلينا.
جمع أستاذنا بين الشدة وقت أن لا يكون للين مكان وبين المرح والانبساط في أوقات الراحة ولحظات الاسترخاء.
تلامسنا معه واعتبر كل منا أن الأستاذ خصه باهتمامه وحبه وتعليمه.. والحقيقة أن كلا منا تعلق بشخص الأستاذ والتزم بكل ما كان يبديه من إرشادات ونصائح وخبرات تحت تأثير سر الخلطة في شخصيته الشامخة.
الكل أحبه.. والكل تعلم منه.. والكل أصبح يحمل له لمسة وفاء لكل ما قدمه بسخاء.
كان كالنهر المتدفق في أحاديثه وحكاياته كلما اجتمعنا حوله بمكتبه الواسع مثل قلبه.
عندما سافر للدنمارك حيث يعيش نجله الدكتور أكمل -أستاذ الأورام بمستشفي جامعة أورهوس- كان حريصا أن ينقل لنا كل جمال صادفه في الرحلة.
كان يركز علي مفاتيح نجاح المجتمع هناك وكيف يمضي كمنظومة متناغمة يحكمها القانون بلا استثناءات مقرنا ذلك بأمل أن نبلغ ما بلغه الغرب من تحضر وإنسانية ونجاح.
الدقة من خصاله المهنية فلم يكن يترك معلومة وإلا ويتم التحقق منها.. وهي واحدة من مبادئ العمل الصحفي بـوطني.
كان يحلو للأستاذ مراجعة المادة ونحن جلوس بجواره فكان مدرسة صحافة أصقلت الكثير من إمكاناتنا الصحفية.
أتذكر من مقولاته الشهيرة إن الصحافة تقود ولا تقاد فضلا عن تصحيح العديد من التعبيرات التي اعتدناها في الكتابة رغم عدم دقتها.
ذات مرة كتبت مادة رأي في مسلسل أوان الورد, وكعادته طلب مني أن أجلس إلي جواره, ولما وجدته ينشغل بصقل بعض حروف الكلمات وتطلعت إليه بدهشة قال مقولته الفكر أو الرأي لا يراجع.
تعلمنا من الأستاذ ألا نغرف من مزبلة التاريخ. فإذا ما ألم بالوطن أزمة طائفية كان أول المدافعين عن حقوق المهمشين جنبا إلي جنب رائد وطني أنطون سيدهم ومن بعده مهندس يوسف سيدهم.. كان يبني ولا يهدم.
في مناسبات عديدة وما أكثرها كان المتحدث والخطيب المفوه الذي يتنقل من نقطة إلي أخري في سرد منمق يشد إليه مستمعيه ولا يغفل أن يطرح قضية جديرة بالبحث والتحقيق.
حكي لنا العملاق عن والده -أحد علماء اللغة العربية بالأزهر في أربعينيات القرن الماضي وكيف نهل من غزير علمه وثقافته التنويرية أيام طفولته بقرية البرجاية بالمنيا, أما والدته التي قادت مسيرة الأسرة بعد وفاة الوالد المبكرة فقد كانت السبب في إيمانه الشديد بالمرأة المصرية ودورها المؤثر في تنشئة أجيال قادرة علي تحمل المسئولية والتسلح بالعلم والإيمان.
نقل لنا صفوت عبدالحليم عبر عموده الصحفي بـوطني لحظة صدق معظم خزينة خبراته الصحفية والسياسية وأيضا ملامساته الشخصية داخل منظومة البيت ودور الأم والأب في التنشئة الصحيحة وبالشارع مع الفكهاني والمكوجي وسائق التاكسي في رحلتي الذهاب والعودة بيوم العمل بالجريدة..
حتي الكلب الذي تربي بالبيت احتل مكانه بأحد أعداد العمود الصحفي الذي تعلمنا منه الكثير.
صوب الأستاذ قلمه نحو الخطأ وكل همه أن يكتب في لحظة صدق ما كان يعتقد أنه صواب الخطأ وكان حاذقا متمكنا من قلمه بمهارة وإخلاص لمهنة السلطة الرابعة التي أحبها ومنحها عصارة عرقه وحياته.
رحل أستاذنا رجل المبادئ والقيم والوطني حتي النخاع, صاحب الفكر المتقد الذي لم يشخ علي حد قوله, وكيف يشيخ وهو الذي يجدده دائما بالقراءة.
أستاذنا الجليل.. نودعك وسيرتك ستكون دوما المثل والقدوة والزاد كيما نكمل المسيرة ونطلب لك الرحمة جزاء ما قدمته من صلاح وإصلاح.