لحظة صدق إبحار في عالم الفكر والتاريخ
أبي ومعلمي الأستاذ صفوت عبد الحليم:
عندما يمضي أحباؤك في طريق الأرض كلها لانعلم ماذا نفعل,لأننا حقا لانملك أن نفعل شيئا حتي أن دموع الحزن وآهات الفراق الجسدي لاتقوي أبدا علي العبور بنا من هذه الحالة القاسية, قد أكون يا أستاذي لا أنفذ وصيتك أنت الذي لاتحب البكائيات,فهكذا كنت دائما تطلب منا عندما تسقط ورقة من شجرة وطني ألا يأخذنا حديث الحزن علي الرحيل بعيدا عن الواقع المعاش المليء بالإنجازات العملية في حياتنا والتاريخ الإنساني والمهني الذي يسطره هؤلاء العظام,أن القاريء لما تركته أيها الأستاذ الكبير من حملات صحفية داخل وخارج مصر, ثم عمودك الأسبوعي بوطنيلحظة صدق الذي استمر لسنوات-سدرك مدي موهبة الرجل العظيم والتي أصقلتها بالخبرة العملية والعمل الدؤوب.
لن ننسي أبدا وجودنا في مكتبك ومناقشاتك الثرية التي لاتخلو من المعلومة الممتزجة بالعطاء ودائما يغلف حديثك الفكاهة الراقية, تحدثنا في التاريخ والسياسة والأدب وتحكي خبراتك العريضة في بلاط صاحبة الجلالة.
أذكر أنك أرسيت مبدأ مهما جدا وهو ضرورة استخدامتاء التأنيث في مكانها إنطلاقا من احترامه للمرأة من ناحية, ولقواعد اللغة من ناحية أخري, أيضا نصيحته الدائمة للمحرر أن يقدم موضوعه متكاملا بقدر الإمكان بغير أن يعتمد علي المراجعة, وهناك مباديء عديدة لازالت تعيش فينا.
لن أنسي لك تعضيدك لي عندما شرفت بمسئولية بابالفكر والأدب الذي رأسه من قبل من الأساتذة العظام: الأستاذ صبحي شكري. وما نقوله عن الجانب المهنيفهو علي اتساعه لايقل بحال من الأحوال عن الجانب الإنساني الذي لمسناه عن كثب طوال سني حياتنا في بيتنا وطني وكيف احتويت ضيقتي وجئت خصيصا لمنزلي لتقديم واجب العزاء في رحيل والدي منذ أربعة عشر عاما.
أستاذي الكبير اسمح لي أن أتحدث عن كتاباتك الموضوعية الهادفة التي أودعتها مقالتك الأسبوعية بعامود لحظة صدق بجريدتنا وأميط اللثام عن شيء من القضايا العديدة التي ظللت تدافع عنها حتي النهاية, وأخص عام2012 ذلك العام الذي يحمل الكثير والكثير في تاريخ مصر.
حديث الذكريات
يقول الأستاذ صفوت عن ذكرياته أنها صندوق مغلق مليء بحياة حافلة, لقد شرب كوز ماء مليئا بالديدان عندما كان يغطي حرب التحرير في إريتريا ضد الحبشة, وهو الذي أكل علي مائدة واحدة مع ملكة بريطانيا والإمبراطورة فرح ديبا وذلك أثناء افتتاح المعرض الإسلامي في لندن وله تجربة خاصة أثناء مهرجان الشباب في برلين الشرقية في بدايات عام 1973 عندما كرست الوفود العربية كل جهودها في لعن مصر والتهجم علي أنور السادات, ثم يقول:عوضني الله خيرا بعدها بثلاثة أشهر وقمت بتغطية صحفية لحرب تحرير سيناء وكيف انتابتني نوبة حادة من البكاء عندما دخلت بنا السفينة من برلين الشرقية إلي ميناء الإسكندرية ورأيت الحشود العسكرية البحرية ثم عندما لمست قدماي أرض سيناء أثناء تحريرها وكيف أنكفأت علي الرمال وجسدي يرتجف من البكاء الحاد تماما كما حدث في ميناء الإسكندرية,العمر لحظة,وطني في مارس2012. هاهي الذكريات تتوغل في عالم الطفولة عن ذكريات العيد التي تتعدي الحنين إلي الكشف عن الطبائع المرهفة التي تذوب شفقة علي مخلوقات القدير من الحيوانات والطيور, فما بالنا بالإحساس. نحن البشر؟فها هو يقول: عام سعيد علي مصر وشعب مصر, فالعيد الكبير يطرق الأبواب, وتداعت ذكريات ثمانين عاما علي ذاكرتي.
توفي أبي وكنت في العاشرة من عمري ولا أزال أتذكر خروف العيد, كان والدي يحرص علي فدو العيد فيشتري خروفا ويظل يعلفه بالبرسيم لمدة أسبوع, وأتذكر جيدا أنه يوم ذبح الخروف كان يختفي في حجرة داخلية في الشقة في حي السيدة زينب ولا يقترب نهائيا من الحمام حيث يتم الذبح علي يدي جزار متخصص, وأتذكر أنني في آخر عيد قبل وفاته وفي الحجرة البعيدة والجزار في مهمته رأيت في عينيه دموعا تسيل,لماذا كان يبكي؟ لا أدري حتي اليوم, ولكن الذي كنت الاحظة في حياتنا العائلية في غير الأعياد, أنه لم يتجرأ يوما علي ذبح دجاجة فقد كانت هذه المهمة من بين واجبات أمي العائلية فهي التي تتولي ذبح الطيور في غيبة والدي.
الغريب أنني ورثت هذا الضعف من والدي فلا علاقة لي طوال حياتي بذبح الطيور والمواشي, وكلفت يوما في مجلة المصور بأن أسجل تحقيقا صحفيا مصورا عن المذبح في حي السيدة زينب, ورأيت هناك الطرق المختلفة لعملية الذبح, رأيت ذبح الماشية,ورأيت كيف تنحر الجمال وذلك بطعنها وهي واقفة في نهاية عنقها, ورأيت الخنازير عندما يتم شق رقبتها بيالطول من بداية الرقبة إلي بداية الصدر, ورأيت قتل الطيور في إيطاليا وإعدادها للطهي, رأيتهم هناك يضعون رؤوسها في الماء حتي تختنق.
نشأت وأنا أعطف علي الطيور وأحب الحيوانات وأكره القتل والدماءديسمبر2012.
اغتراب
مواقف أستاذنا وأحاديثه بيننا طوال سنوات العمل وكتاباته أنها لتنطق بمبدأ واحد وحقيقة مؤكدة مفادها الإيمان بالقضية القبطية وكيف يضع نفسه مكان الآخر في الوطن,فهو الذي كتب:
دق جرس التليفون علي مكتبي, وسمعت صوته,وشاب من أبنائي القراء يحدثني من محافظة المنيا, قال: فتحت جريدةوطني علي الصفحة الثانية وصدمتي أنني لم أجد صورته كما تعودت كل أسبوع,كنت أشعر بالطمأنينة وأنا أتأمل وجهه وحنان عينيه, في لحظة واحدة أيقنت أن نياحة أبي حقيقة وأنني الآن بغير بابا يرعاني, أحسست بأنه يضع رأسه علي صدري وأن دمعه من عينيه تسيل علي خدي أنا.
ياللهول,لهذه الدرجة يشعر أبناؤنا بالاغتراب وعدم الأمان في وطنهم بسبب اختلاف مقاييس العدل والحق تبعا للدين أو الجنس.
والحقيقة أن العدد الذي عاتبنا عليه ابني كان عددا خاصا بمناسبة مرور40 يوما علي نياحة مثلث الطوبي والرحمات قداسة البابا شنودة وكان له إعداد خاص.
قفز علي سطح ذاكرتي صوت المناضل الأمريكي الزنجي مارتن لوثر كينج في إحدي خطبه الأخيرة قبل اغتياله وهو يقول عندي حلم (I havea dream) وأخذ يعدد مساويء التفرقة العنصرية,وكان من نتائج هذه الخطبة التاريخية أن أفاق المجتمع الأمريكي الأبيض من غفلته ومن زهوه,وبدأت قوانين فعالة مؤثرة تصدر للقضاء علي هذه النقيصة, وكان من بينها عدم إنتاج أي عمل درامي إذاعي أو تليفزيوني أو سينمائي إلا إذا كان بين نجومه زنجي أو زنجية,حتي يتعود الأمريكيون البيض علي وجوه الزنوج داخل بيوتهم,وخلال ثلاثة أو أربعة عقود قضي تماما علي التفرقة العنصرية في أمريكا والآن يتولي رئاسة أكبر وأقوي دولة في العالم رجل زنجي.
أنا أيضا عندي حلم ولاتزال دمعة ابني علي خديالدمعة علي خدي- مايو 2012.
مستقبل مصر
هاهو الأستاذ الكبير المحلل السياسي لواقع الوطن قبيل الانتخابات الرئاسية يكتب:تحدد مصر مستقبلها خلال الأيام القليلة القادمة من خلال الانتخابات الرئاسية, فهذه الانتخابات تتصارع فيها تيارات مختلفة تصل إلي حد التناقض إلي الدرجة التي يمكن معها تغيير وجه الحياة الاجتماعية والسياسية لعقود طويلة قادمة.
أري بشكل مجرد بعيدا عن أسماء المرشحين أن الصراع يدور بين فكر ناصري يريد أن يعود بنا إلي أحلام الزعامة المطلقة والهيمنة علي جميع الأنشطة الداخلية وعلي الدول العربية وتمتد إلي دول العالم الثلث بما في ذلك استخدام القوة وتعبئة الجماهير.
وطرف آخر من الصراع يسعي من خلال العقيدة الدينية إلي تغيير كل معالم وشكل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والسياسية,وطرف ثالث من الصراع يسعي إلي إقناع الجماهير بضرورة وحتمية الانضباط من خلال حاكم عسكري قوي,وأطراف أخري متناثرة ليست لها أذرع طويلة تجتهد في إبراز محاسن الديموقراطية المعاصرة والإصلاحات التدريجية الممكنة في دولة تآكلت أجهزتها الإدارية.مايو2012.
السباحة ضد التاريخ
شغلت قضية جماعة الإخوان المسلمين الراحل الكبير فكتب عدة مقالات تندد بتاريخهم الأسود غير عابيء بوجودهم في سدة الحكم:
عندما نتابع نشاط الإخوان المسلمين منذ 80 عاما وحتي الآن نلاحظ أنهم تعرضوا للقمع من مختلف الأنظمة الحاكمة علي اختلاف توجهاتها لسبب واضح وهو أن هذه الجماعة كرست جهودها للوصول إلي الحكم تحت شعار الدعوة من خلال العمل السياسي والمليشيات.
والجديد في المرحلة الحالية أن المواجهة الآن لم تعد مع الحكومات ولكنها مع الشعب نفسه ولأول مرة, لماذا؟.
يجد المواطن المصري البسيط والبعيد عن الثقافة الرفيعة أن توجهات هذه الجماعة تسير عكس التاريخ الإنساني الذي وصل إلي الديموقراطية بعد تجارب طويلة دامية وثورات عديدة منها الثورة علي الإقطاع بعد نمو المجتمعات الصناعية التي فجرت تقاليد مجتمعية جديدة استلزمت اندثار تقاليد الإقطاع, ومنها الثورة علي الكنسية التي وصل بها الاستبداد إلي بيع صكوك الغفران لدخول الجنة, ومنها الثورة الفرنسية التي قضت علي ديكتاتورية الملكية. بعد هذا التطور الهائل للبشرية لم يعد ممكنا السباحة ضد التيار..
ويختتم قائلا: الطريق في مصر إلي الديموقراطية شاق, وأعتقد شخصيا أنه مليء بالتضحيات وأثق أننا سنصل إلي الضوء في آخر النفق, العودة إلي الماضي ضد مسار التاريخ.
وفي مقال آخر يحدثنا عن مساويء خلط الدين بالسياسة لأول مرة منذ إنشاء جماعة الإخوان المسلمين, تكون مواجهاتهم مع الشعب بعد أن كانت مع الحكومات علي اختلاف توجهاتها والسبب بسيط, أن الجماعة ظلت ترفع شعار الدين غطاء لسعيها إلي الحكم وعندما تمكنت من تحقيق حلمها انكشف المستور أمام رجل الشارع البسيط وهو أنها تريد السباحة ضد التاريخ, والتاريخ له قوانينه الحتمية المستمدة من تجارب البشر الذين عايشوه واكتسبوا خبرات دفعوا ثمنها بدماء الشعوب.
والتاريخ يقول: إن خلط الدين بالسياسة وسيطرة رجال الدين علي مقاليد الحكم تعطيهم صفة القداسة وأنهم ظل الله علي الأرض ويصبح النظام الديني ديكتوريا بطبيعة الأمورديسمبر2012.
تعالوا نمسك سيرة!!
دعونا نختم الحديث هنا بهذا المقال الإنساني الفكاهي والذي لايخلو بالطبع من مضمون,عندما كتب في أبريل 2012 تحت عنوانتعالوا نمسك سيرة: أفتح لكم قلبي وأصارحكم, الأحزان عند إخوتي الأقباط عميقة وممتدة وتغطي الحياة بالاكتئاب, ربما يجدون فيها بعض السلوي في مجتمع يكيل بمكيالين حتي أن ابنتي لوسي عوض في الجريدة قالت: إن شابا مصريا قرر أن يتزوج من ثلاث نساء, واحدة يهودية يذهب معها إلي الأسواق لمهارتها وواحدة قبطية ليذهب معها إلي المياتم وواحدة مسلمة ليذهب معها إلي المشاجرات!!!
تعالوا معي إلي بيتي الثاني وأقصد الجريدة نقضي معا أوقاتا أطول مما نقضيها في بيوتنا, والممتع فيها أن غالبيتها متعة ومرح هيا بنا نختصر الأحزان.
دخلت صباح يوم إلي حجرة أجهزة الحاسب الآلي فوجدت المهندسة سامية سيدهم العضوة المنتدبة للجريدة ومعها جمع كبير من الزملاء والزميلات فقلت بصوت مرتفع يا باشمهندسة,ألاقي معاكي ألف جنيه سلف فقالت علي الفور ولاقرش صاغ واحد وبعدها كلما دخلت الحجرة تصيح ولا قرش صاغ واحد.
زميلنا أحمد حياتي سكرتير التحرير من هواة المقالب, منذ عدة أيام اتصل بي تليفونيا الساعة الثالثة فجرا وأيقظني من نوم عميق فوجدته يقول عندي ثلاثة أخبار والمساحة المتاحة لاتتسع إلا لخبر واحد فأيهما تختار؟ وبعد مداولات ومناقشات انتهت المكالمة وطار النوم, وعندما ذهبت إلي الجريدة في اليوم التالي عرفت أن المشكلة كلها مجرد تأليف.
الحكايات لاتنتهي, وكذلك الحب بيننا لاينتهي.
حقا أستاذ صفوت ستبقي الحكايات ويبقي الحب أبدا وإن وارانا الثري.
إخلاص عطا الله
[email protected]