لا تتعجب إذا شاهدت الأطفال يجوبون الشوارع بحثاً عن كسرة خبز، ولا تضن عليهم، أو تنعتهم بأنهم مأجورون، إنهم ضحايا لا حيلة لهم، لم يولدوا متسولين، ولا فطروا على التشرد لكنها أنصبه موزعة في الحياة، كل يحمل نصيبه فاسداً كان أو صالحاً، رابحا كان أو خاسرا أنصبة مجهولة تلقيها إلينا مسرحية الظروف، والبطل الأقوى فيها هو المال، فلا تسدل الستار على دموعك إذا لمحت أحدهم يعبث في صناديق القمامة، بعد يوم طويل ليسد جوعه ببقايا موائد القادرين، أو إذا شاهدته وقد تسمرت قدماه أمام ثلاجة عرض الأطعمة الفاخرة خلف زجاج المحال الراقية، بل ارفع رأسك للسماء ربما تفيض عدلا إذا ضنت به جمهورية الظلم في الأرض.
أمام باب العمارة رقم 27 في شارع عبد الخالق ثروت،في وقت الظهيرة جلست امرأة في الثلاثينات من عمرها، ترتدي جلبابا باليا، أسود اللون لكنه صار رماديا بفعل الاتساخ والجلوس في الطرقات لسؤال الناس، يلتف حولها خمسة أطفال، أكبرهم 13 عاما لفت نظري جلوسهم في مدخل العمارة أثناء صعودي إلي مقر الجريدة، نظرت إليهم في صمت ثم صعدت إلي عملي، بعد أقل من نصف ساعة فوجئت بذات الجلباب الأسود تدخل مكتبي مصطحبة أطفالها الخمسة، جاءت أملا في نوال التعاطف معها، والعثور على من يساعدها بالرغم من أنها كما يبدو احترفت الشحاذة.
كانت الغرفة خالية إلا من أسرة “غالية” التي تبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، وتفرق كل طفل فوق مقعد واستند أحدهم إلى المكتب واقفا، أما الابنة الصغرى وعمرها 3 سنوات فاستقرت فوق كتف والدتها غالية، إنهم نموذج البؤساء في الأرض، بكل تفاصيله المفجعة، الموجعة وجوه لونها الاصفرار، وملابس تفضح حوج العراة، وأقدام تشهد أنهم ساروا فوق الأرض حفاة، بقدر ما سار من في مثل أعمارهم مكرمين مصانين، ولعاب يتأرجح في حناجرهم كلما رأوا شيئا لم يروه من قبل، وعيون تتفحص المترددين ربما يحمل أي منهم حلوا أو حتى مرا.
تكلمت ”غالية” يساندها الأطفال الذين نضجوا قبل الأوان، حديث لم أتعرض لمثله منذ أن توليت مسئولية باب “افتح قلبك” أنقله لكم وكلي وجع ففي الأرض ملايين مثل “غالية” وأبنائها ونحن أمامهم عاجزون.
غالية: كنت باطلع على باب الله أسترزق، أروح بيت أغسل سجادة، أبيع مناديل في الشارع لكن الرزق مش مكفي الأكل والشرب، مرة في مرة بقيت أمد أيدي لله، الولد الكبير 13 سنة مافلحش في المدرسة، بقيت أشغله معايا والباقيين كلهم مارحوش مدارس من أساسه، هو احنا لاقيين نأكلهم لما نعلمهم ده التعليم عايز جزم وشنط وكتب وكراسات للمدرسة وساندوتشات هانجيب منين كشاكيل ومصاريف مدارس.
تصوري يا أبلة علشان نقدم للولد الصغير كانوا عايزين مننا 88 جنيه، أجيبها منين دي؟ هو قال لي يا أما أنا مش عايز، قلت كويس جات من عند ربنا، الولد كاره التعليم.
المحررة:إزاي هاتسيبهم كلهم من غير تعليم، إزاي دي جريمة حرام عليكم؟ كانت ممكن تتحل لكن ضياعهم إزاي تلحقيه؟
غالية: يا أبلة إنتي بتتكلمي من وسع، ال 88 جنيه دول بالنسبة لنا يعيشونا تلات أيام أكل وشرب البنت الصغيرة على أيدي عندها حساسية صدر، باروح أجيب الدوا بخمسين جنيه كل كام يوم، ماحدش حاسس بينا، الدنيا فيها حاجات تانية غير التعليم، علشان يعيشوا إحنا عايشين في أوضة وطرقة، الإيجار لوحده 180 جنيه، مكسور علينا له تلات شهور يعني داخلين في 600 جنيه، نايمين على بطاطين لأن ماعندناش سراير، عندنا تليفزيون وريسيفر، هدوم العيال في بؤجة، باعمل لهم الهدوم إللي نشحتها مخدات يناموا عليها، بس صدقيني راضيين ده أحنا أحسن من غيرنا أوي.
المحررة:جوزك بيشتغل أية؟
غالية: جوزي بيشيل تراب وينقل طوب، جاله شغل بيصرف على البيت، ماجاش باطلع أنا أشحت، لنا كده أكتر من عشر سنين، بس العيال لما كبروا بقوا يساعدونا في المصاريف!!
في تلك اللحظة تدخل الابن الأكبر في الحديث قائلا: أنا يا أبلة شغال مع بتاع خضار بيديني في اليوم 15 جنيه، يعني 450 في الشهر، أمي بتاخد مني عشرة جنيه وأنا باخد خمسة، أجيب بيهم أي حاجة أكلها، ساعات علبة كشري وساعات سميط من الفرن أو أي حاجة المهم تكون ماتزيديش عن الخمسة جنيه. لحق الابن الأوسط 10 سنوات بحديث الأكبر حتى يبرز أنه رجل يساعد أسرته وقال: أنا باروح مع أبويا الشغل لو راح، باشيل ردش، واخد عشرين جنيه أبويا ياخد 15 منها وأنا أخد خمسة زي أخويا. ولم يصمت الأصغر ذو الثماني سنوات: وأنا بابيع مناديل مع أمي ونقعد عن الجامع نسترزق!! كلهم تكلموا إلا واحدا هو الأصغر ظل صامتا وكان مستندا إلي مكتبي فسألته: وأنت بتعمل إية؟ أجاب في سرعة بديهة غير متوقعة صايع باروح ألعب في الحارة لغاية ما هم ييجوا من الشغل!!
يا إلهي.. لا أصدق أن أولئك البؤساء دون العاشرة من أعمارهم رائحة التشرد والشحاذة تفوح من حروفهم خمسة أطفال مصيرهم الضياع بسبب جهل والديهم وفقرهم، توجهت مرة أخرى إلى “غالية” وسألتها: بتكسبي كام كل يوم؟ أجابت: كل يوم برزقه ساعات 50 جنيه وساعات 30 وساعات مافيش..
في هذه اللحظة كانت أحدى الزميلات في الحجرة فهمست في أذني قائلة: خمسين جنيه كل يوم يعني 1500 جنيه في الشهر إيه إللي يخليها ما تدخلش العيال مدارس؟
حينما فكرت فيما همست به زميلتي وجدت أن 1500 جنيه شهريا من الشحاذة مضافا إليها 1000 أخرى من الطفلين و1000 ثالثة من الزوج, ليكون المجموع 3500 جنيه لابد أن تغطي 180 جنيها إيجار، وحوالي 100 جنيه كهرباء ومياه، ومواصلات الزوج علي الأقل 400 جنيه، لأنه لايعمل في مكان سكنه وإذا حاولنا احتساب مصاريف المعيشة لابد أن نسأل بكم من الجنيهات تحتاج أسرة مكونة من سبعة أفراد إلي خبز يوميا وألبان وبيض وجبن، كل يوم؟ كم من الجنيهات سوف تنفقه علي الخضار بدون دجاج أو لحوم؟ كم من الجنيهات تحتاجه سبعة أفواه سبعة بطون سبعة أجساد لتأكل فقط، دون احتساب المرض والطواريء والتعليم، والأعياد، والملابس؟ إذا كانت البيضة الواحدة تباع بجنيه ونصف، فإذا أكل كل منهم بيضة واحدة يوميا، سوف يتم استهلاك 210 بيضات في الشهر أي 315 جنيها، بالقياس على ذلك نجد أن الحسبة تصل لآلاف الجنيهات للمأكل فقط، ربما هذه الأسرة كانت تحيا من قبل بدون مساعدة لكن بعد الغلاء الفاحش الذي وصلت إليه الأسعار، لايمكن لمثل هذه الحالات الوفاء بالتزامات المأكل والمشرب دون مساعدة القادرين.
لايمكن احتساب النفقات التي يحتاجها منزل من سبعة أفراد، ولا يمكن أن نتركهم للشحاذة في الشوارع حتى الشحاذة في القريب العاجل لن تفلح، فالكل تحت وطأة الغلاء يئن.
لم تنته قصة ”غالية” ، التي لا تعرف سوى الطواف في الشوارع، لكنها تأثرت حينما سمعت حسبة الآلافات التي لا تكفي، فقالت في أسى: ماتولدتش شحاتة، أبويا كان بيلمع جزم، وأمي كانت ست بيت، وأخويا كان في الجيش وقتها ماكانش أبويا قادر يعيشنا جه جوزي اتقدم لي، أول ما خبط على الباب وافقوا من غير ما يفكروا هايعيشني منين وهو أرزقي يشتغل يوم ويقعد عشرة زي كل العمال، اتجوزت وعشت عيشة التربة أهون منها اتنقلت من بيت لبيت كنت صغيرة وحلوة والطمع فيا، ماحدش رحمني وإنتي عارفة وأكيد شفتي كتير قبلي.
في يوم كنت باخدم في بيت ومن غير تفاصيل صاحب الشقة اتهجم علي رغم أنه كان راجل عجوز، المشكلة مش في أنه عمل كدة المشكلة أني لما اتخضيت وقلت له عيب يا بيه ورفضت أجاريه بدأ يلطش في وشي، تلطيش في تلطيش ورا بعض بدون وعي، جالي ذهول ماعرفتش أتحرك من مكاني، لما لقاني ماتحركتش، زاد فيها وزي ما يكون استخسر يسيبني من غير ما يبهدلني كأنه بينتقم مني، ونزل فيا ضرب لغاية ما خرشمني، وكنا في المطبخ لقيته مسك البراد وكان فيه مية مغلية، ماحستش غير وأنا في الشارع معرفش خرجت أزاي من الشقة، وفضلت أجري وأجري في الشارع وسط العربيات، زي المجانين جريت حافية ومن ساعتها وأنا حافية.
حتي لو لبست شبشب ما أنا ماشية علي شوك الحوج طول عمري..
ما علينا.. ماقدرتش أقول لجوزي ولو قلت له هايعمل إيه يعني إحنا غلابة مالناش دية ولما تعبت من الجري قعدت على الرصيف، وبعد شوية لقيت واحدة بتديني فلوس، صرخت فيها أنا مش شحاتة، أنا مش شحاتة خافت مني وهربت وبعدها جاتني فكرة الشحاتة لكن المنحوس منحوس، الأول كنت باتكسف وكنت باحط طرحة على وشي، بعد كدة لما اتعرف أني باشحت، الجيران عايروني واتخانقوا معايا وقالوا لازم أمشي من السكن، وقتها كنا ساكنين في شقة على أدنا في منطقة معقولة، لكن الله يسامح الناس اللي لا عايزة تساعدنا ولا سايبانا ندور علي حد يساعدنا، ومش هاترحمنا لو سرقنا أو مدينا عرضنا بدل أيدينا.
حصلت مشاكل كتير لغاية ما اضطريت أبيع عفش بيتي خردة، علشان نعزل ورحنا قعدنا في حارة من جوة حارة أوضة وطرقة وحمام، وحالة ما تسرش عدو ولا حبيب، أنا جيت علشان تساعديني بحاجة في العيشة في الأكل، جيت علشان مش عايزة عيالي يطلعوا شحاتين.صحيح مش متعلمين، بس كمان مش لازم يكونوا شحاتين، جيت هنا لما تعبت لا أنا ست ولا نص ست ولا حتى ربع ست، لا عندي مستقبل ولا عيال متصانة، ولا زوج قادر يشيل البيت، ولا سرير أسند راسي عليه آخر اليوم.
أيوة أنا شحاتة بس مش ممكن أفضل طول عمري أشحت، أنا باخاف يقبضوا علي باخاف أتجنن، باخاف أنعس وأنا قاعدة تدهسني عربية، باخاف على العيال، أنا بني أدمة برضه، وكان نفسي أكون زيكم، ألبس وأتزوق، وأربي عيال يشرفوني، كان نفسي أتستت، كان نفسي أنضف بس الزمن مش راضي.
لم يكن صوت ”غالية ” هو الوحيد الذي يصرخ طالبا الرحمة في زمن قساة تحجرت قلوبهم، ربما لم تصل لمنابع الرحمة مثل غيرها، ربما استسهلت التسول ربما تشارك الجهل والفقر والظلم في هذه النتيجة لكن المحصلة واحدة أنها وأسرتها تحتاج رعاية مكثفة عاجلة.
استغاثة عاجلة:
شاب يبلغ من العمر 32 سنة يحمل مؤهلا عاليا، بسيط الفكر والروح, متزوج منذ ثلاث سنوات، مصاب بعجز في العصب البصري، ليس مكفوفا ولكنه يحتاج لملازم دائم، ولا يجد عملا بسبب حالة بصره، ولم تستجب له الحكومة في وظيفة من الوظائف التي تتبع نصيب الخمسة في المائة من المعاقين، استأجر والده العجوز جدا محلا ليفتتحه مكتبة لكن تقف العقبة في تجهيز المكتبة فليس لديهم أي مال لشراء بضاعة، إذ يحتاج الشاب إلى ماكينة تصوير وبضاعة متنوعة قبل بدء العام الدراسي حتى يستطيع العيش دون تسول.
استدراك:
تم نشر مبلغ ألف جنيه بالخطأ في العدد السابق، تحت اسم ماري جرجس والبابا شنودة الزقازيق، بينما كان المبلغ عشرة آلاف جنيه لنفس الاسم حيث تبدبت المبالغ مع الأسماء بالخطأ ونشر 10000 آلاف جنيه باسم طالبا مراحم الله- الإسكندرية بينما كانت صحة المبلغ 2000 جنيه، لذا لزم التنوية والتصحيح، ونعتذر عن الخطأ غير المقصود في الأرقام.
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة