قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (688)
الذي يتابع الإعلام الأمريكي -والعالمي علي وجه العموم- هذه الأيام لا يفوته القلق المتزايد والتداعيات الحادة إزاء ما يوصف بانفلات ونزوات ومقامرات الرئيس ترامب سواء علي الساحة العالمية أو علي أثر لقائه كيم جونج أون رئيس كوريا الشمالية منذ ثلاثة أسابيع.
وكما كتبت سابقا, لم تعد تجدي معلومة أن الرئيس الأمريكي لا يدير أمة ضخمة مثل الولايات المتحدة وحده وأنه محاط بمؤسسات سياسية وبحثية تسلحه بمعطيات ومعايير صناعة القرار… أقول مرة أخري لم تعد تجدي هذه المعلومة بعدما رأينا ترامب لا يتورع عن إزاحة كل معارضيه والتخلص من جميع من لا ينصاعون لأهوائه بحيث انعكست الآية وباتت المؤسسات هي التابعة للرئيس الأمريكي بدلا من كونها صمام الأمان للسياسة الأمريكية.
أيضا هناك خاطر مخيف ينتابني, إذ كنت كلما أعبر عن عجبي مما يفعل ترامب في أمريكا والعالم يجيئني رد بعض الأمريكيين: لسنا آسفين علي انتخابه فالنظام الديمقراطي الأمريكي يستطيع تصحيح نفسه بنفسه, وإذا استمر ترامب في هذا العبث سرعان ما يأتي موعد إعادة انتخابه ويطيح به الشعب عن طريق صندوق الانتخاب, وحتي إذا حظي بفترة رئاسة ثانية فبعدها يجب أن يذهب ويحل محله رئيس آخر… ولكننا في مصر لنا خبرة خطيرة في هذا الصدد بعدما عاصرنا رئاسة محمد مرسي -الذي يعايرنا الإعلام الغربي الموجه بأنه رئيس شرعي أتي بواسطة صندوق الانتخاب -وروعنا من سياساته الكارثية حتي شعر الشعب بأن السكوت عليها وانتظار موعد صندوق الانتخاب للإطاحة به سيكون متأخرا جدا عن إنقاذ مصر منه فكان أن نزل المصريون للشارع وأطاحوا به بمؤازرة مطلوبة ومباركة من الجيش المصري.
صحيح أن سيناريو 30 يونية الذي أنقذ مصر من محمد مرسي وجماعته يصعب تصور تكراره في العالم الغربي أو أمريكا علي وجه الخصوص- ناهيك عن استبعاد تكراره حتي في مصر نفسها بعد الإصلاح الدستوري ومسار التنمية الذي تسلكه- لكن كما ذكرت في مستهل هذا المقال فإن المتابع للإعلام الأمريكي لن يفوته القلق المتنامي إزاء سياسات ترامب وجموحه وانفلات تصريحاته وأفعاله.. وبات الجميع يتندرون بأن ترامب دغدغ مشاعر الأمريكيين في حملته الانتخابية بإطلاق شعار أمريكا أولا لكنه في كل ما فعل حتي الآن لتطبيق هذا الشعار ترك فاتورة باهظة التكاليف علي أمريكا والشعب الأمريكي سدادها سواء في القريب العاجل أو في المستقبل وهذه ملامح تلك الأفعال وتكلفتها الباهظة:
** تحول شعار أمريكا أولا إلي سلسلة من السياسات الغريبة والمتسرعة التي حولته إلي أمريكا وحدها وأصبحت أمريكا بفضل ترامب بلدا نجح بامتياز في الإطاحة بأصدقائه وحلفائه واكتساب أعداء جدد كل يوم أو علي أقل تقدير إغضاب الحلفاء واستفزازهم لاتخاذ مواقف حذرة تجاه أمريكا والتلويح بانتهاج سياسات رد الفعل التي تتناسب مع فعل أمريكا.
** أفضل وصف جاء علي لسان أحد المحللين السياسيين لما يفعله ترامب أن أمريكا مستمرة في الإطاحة بجميع معايير السلام والاستقرار والتوافق والمصالح المشتركة التي جري ترسيخها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وأنه لا يكفي لتبرير ذلك خداع الشعب الأمريكي بأن أحواله الاقتصادية في تحسن في ظل رئاسة ترامب لأن جزءا غير يسير من ملامح ذلك التحسن بدأ بالفعل قبل مجيئه علاوة علي أن الشعب الأمريكي نفسه سرعان ما يكتشف أن عليه أن يصلح من كثير من الضرر الذي سيحيق به من جراء ذلك.
** تعجب محلل سياسي آخر من مغامرة ترامب مع كوريا الشمالية والغموض الذي يحيط بنتائجها خاصة أن ما يجهر به ترامب من ثقته في الزعيم الكوري الشمالي لا تسنده أي أدلة دامغة بل الحقيقة أن هناك رصيدا متبادلا من عدم الثقة من جانب مؤسسات السياسة الأمريكية في تاريخ نقض الوعود الكورية من ناحية ومن جانب كوريا الشمالية في تاريخ انسحاب ترامب من جميع اتفاقيات أمريكا من ناحية أخري.
** الحرب التجارية الشعواء التي يشنها ترامب علي المجموعة الأوروبية وكندا والمكسيك والصين وفرضه رسوما جمركية صادمة علي التجارة بين هذه الدول وأمريكا لم تمر دون ردود أفعال متسقة مع قانون الميكانيكا الأعظم لكل فعل رد فعل مساو له في القدرة ومضاد له في الاتجاه ..!!.. فها هي ألمانيا وكندا والصين تعلن فرض رسوم جمركية علي الواردات الأمريكية تحقق تعويضات مساوية تماما لخسائرها من جراء الرسوم الجمركية الأمريكية علي صادراتها لأمريكا…
وعلي طريقة المبررات لا تبيح المحظورات جاء تعليق أحد المحللين الاقتصاديين علي اندفاع وانفلات ترامب حيث قال: صحيح أن ترامب ينتقم من إصرار الصين علي سرقة التكنولوجيا الأمريكية عبر نحو نصف قرن من الزمان وإعلانه أن عليها أن تدفع الثمن, لكنه لا يدرك أن رد الفعل الصيني بفرض رسوم متكافئة علي أمريكا يلحق أضرارا جمة بشركات ومؤسسات أمريكية عملاقة علاوة علي أن ترامب لا يحسب نتائج المعارك التي يقدم عليها, فهو يجابه العملاق الصيني دون أية مساندة من أصدقائه وحلفائه الذين خسرهم بالفعل قبل هذه المجابهة… وكان أدق تشبيه ساقه في هذا الصدد هو: أنت لا تستطيع أن تدخل معركة مع سبعة أعداء وفي حوزتك ست رصاصات..!!
*** إننا نرقب ما يحدث في العالم علي يد ترامب بكثير من العجب, وأنا لازلت أتمتم: هل أمريكا تشهد محمد مرسي آخر؟!!!