حدث فى كأس العالم واقعتي تحرش على الهواء، حتى الآن، مرة عندما قبلت مشجعة روسية مذيع مصري بقناة النيل الرياضية، والثانية عندما قبل رجل مراسلة تابعة لقناة دويتشه فيله الألمانية. فماذا قال كل منهما. قال المذيع المصري، حسب موقع مصراوي: “”كنت على الهوا، وما كانش فيه فرصة إني أتصرف، وده وارد جدًا، وكل اللي قالته بحب مصر والمصريين”، مؤكدًا “غصب عني اللي حصل، وحاولت أن أكون مهنيًا”. وأضاف: “واستقبلت على صفحتي الشخصية على فيسبوك طلبات صداقة كتيرة جدا”.. هذا ما قاله الرجل، فماذا قالت المراسلة حسب قناة البي البي سي: “لا نستحق هذه المعاملة، نحن سواسية في القيمة والمهنية”. وبثت “دويتشه فيله” المقطع على مواقع التواصل الاجتماعي، واصفة إياه بأنه “اعتداء وتحرش صارخ”. فى الواقع أننا أمام الفعل ذاته، ولكن قد يتم النظر إلى كل منهما بصورة مختلفة. وبالطبع هناك اختلاف يتعلق بثقافة كل مجتمع، ولا يعني هذا أن ما فعلته المرأة لا يدينها، فلو أن المرأة التى قبلت المذيع مصرية، فسوف يكون رد فعل المصريين مختلف، ليس لأنها ستكون متحرشة، ولكن لأنها “فاجرة”، وقد يستحل البعض دمها وإن بشكل رمزي.
ومثل هذه الواقعة قد تطرح سؤال يتعلق بالاختلاف بين تحرش الرجال وتحرش النساء فى مجتمعاتنا. فلا شك أن وصف الرجال بالمتحرشين لم يأت من فراغ، فهذه حقيقة يصعب إنكارها، أليس كذلك؟ ولكن ينبغي أن تكون مقترنة بحقيقة أخرى، وهي أن “ليس كل الرجال متحرشين”، لأنه إذا كان الإنكار دليل على الكذب، فإن التعميم دليل على الظلم. وبالمقابل، فإن النساء ضحايا التحرش! وهذه حقيقة ونتيجة منطقية لتحرش الرجال، ولكن أيضا فإن من بين النساء، وإن بشكل لا يمكن مقارنته بالرجال، من يتحرشن، هذا إذا افترضنا أن بعض ألاعيب الإغراء قد تصنف أنها تحرش. وأتمنى ألا يُفهم من هذا الحديث أنني أساوي بين ما يفعله الرجال وما تفعله النساء. في الحقيقة أن هناك اختلاف بين الحالتين ليس فقط من المنظور الكمي، أي حجم ووتيرة التحرش ولكن كذلك بالمعنى الكيفي، أي طبيعة الممارسات التي نصنفها على أنها تحرش، وكذلك في النظرة لفعل التحرش.
إن التحرش شأنه شأن العديد من الظواهر المرتبطة بالأدوار الاجتماعية للرجال والنساء، أو بالأصل بالمفاهيم السائدة عن الذكورة والأنوثة. بمعنى أن ظواهر التحرش يمكن النظر إليها من منظور قانوني بحيث يصبح فعل خارج عن القواعد العامة وبالتالي مُجرم، كما يمكن النظر إليه من منظور أخلاقي، بمعنى أن التحرش فعل مشين ولا أخلاقي، ولكن أيضا يمكن النظر إليه ثقافيا واجتماعيا، وهناك يمكن فهم أسبابه كظاهرة، وليس فقط الحكم عليه كفعل غير قانوني أو لا أخلاقي. ووفقا لهذا المنظور، يمكن القول أن التحرش هو نتاج طبيعي ومنطقي لعمليات بناء الهويات الجنسانية أو هويات النوع الاجتماعى Gender Identity، أي وفق المقاييس والمعايير الاجتماعية والثقافية والقيمية التي ينشأ عليها الأشخاص، ويتشكل من خلالها وعيهم بذكورتهم أو بأنوثتهن.
لقد أظهرت دراسات وشهادات عديدة، أن الشباب الصغير يمارس التحرش، ربما لا لشئ إلا لأن فهمه لذاته كذكر يتطلب ممارسة هذا الفعل. إن التحرش بالنسبة للعديد من المراهقين هو جزء من عملية التعبير عن هويته الجنسية واختبارها. ومع تحول التحرش إلى علامة من علامات الذكورة يصبح معيارا للتباهي بالذكورة يتنافس فيه المتنافسون، فتزداد حدته عندما يتجمع الشباب، حيث يصبح التحرش سباق ذكوري جماعي. وكثيرا ما يعجز المراهق المتحرش فى الإجابة عن السؤال البسيط: لماذا تتحرش؟ وماذا استفدت؟ وبالطبع معروف أن هناك دوافع جنسية، أي البحث عن المتعة أو مجرد تصور إمكانية تحققها من خلال فعل الملامسة أو التعبير اللفظي. ومع ذلك فإن البحث عن المتعة لا يصلح لتفسير لأنه مسألة ملتبسة، وكثير من أفعال التحرش، وخاصة التحرش اللفظي فى الأماكن العامة، لايكون عنصر البحث عن المتعة حاضرا فيه، وإذا كان ثمة رغبة، فهي الرغبة فى الإيذاء.
وفي سياق تبرير فعل التحرش، غالبا ما يكون هناك نوعين من الرد (ولا أقول الإجابة)، الأول هو رد يقوله المتحرش لأقرانه من الذكور، ويرتكز على التباهي، أي قدرة المتحرش على تحقيق انتصارات وغزوات ذكورية، أما الرد الثاني فهو يرتكز على التبرير حيث يحمل المتحرش المسئولية ليس فقط على من تحرش بها ولكن على نوعية معينة من النساء أو حتى على النساء بشكل عام “لأنها أو لأنهن مصدر الإغراء والإغواء”، أو كمال يقول العديد من الذكور “إن البنات عايزة كده”. وفى الحقيقة أن المسألة ليست مجرد حيلة لتبرئة الذات، بل حيلة لعقلنة الفعل، إنها حالة الضعف الذكوري أما شيطان الإغواء، فالشيطان والمرأة هما من لديهما القدرة على الإغواء، ووفق بعض الأمثال فإن المرأة تفوقت على الشيطان من حيث القدرة على الإغواء.
أما النظرة إلى تحرش النساء فهى مختلفة، فى لا تكون أفعال تحرش وإنما فعل غواية وإغراء، ولذا يتم النظر إلى المرأة بوصفها “فاجرة وقادرة” وليس متحرشة. و”الفجر” فعل مشين لا يمكن تبريره، و”الفاجرة” تستحق اللوم والعقاب من النساء قبل الرجال، فمن الرجال من يسعده مثل هذه الأفعال. وفى الحقيقة أن “الإغراء والغواية” مسألة نسبية إلى حد كبير، فهو مبرر الرجال للتحرش بالنساء عندما يحلو لهم اعتبار أي حركة أو فعل تقوم بها النساء باعتباره كذلك. ولكن لا يجب غض الطرف أن بعض النساء تجذبهن لعبة الإغراء والغواية، لأنها أيضا جزء من تصور البعض عن دور “الأنوثة” فى مجتمع ذكوري، عندما تتصور المرأة أن قوتها مستمدة من قدرتها على أن تكون جذابة ومغرية.
والخلاصة، أن التحرش والإغراء هي أمور مرتبطة بالمفاهيم الثقافية السائدة عن الذكورة والأنوثة، وبالتالي فإن التحول الحقيقي باتجاه احترام الآخر، يرتبط قبل كل شئ بتغيير هذه المفاهيم وبالتالي تغيير النظرة للآخر. وهذا الأمر يعني العمل على تفكيك وإعادة بناء الهويات الجنسانية وفق قيم ومعايير مختلفة عن تلك التي رسخت في الأذهان، وللأسف لا تزال موجودة في التنشئة نظم التربية وثقافة الاستهلاك التي نتصور أنها ترتقي بنا فى حين أنها تعيد الإنتاج التقليدي وتلبسه أزياء الحداثة.