الله يكشف نفسه للذين لا يجربونه ويتجلي للذين لا يكفرون به (حكمة1:2). نحن نعيش في عالم طغت عليه الماديات والشكوك واليأس حتي أن البعض يعاتب الله قائلا: أين معونتك وقدرتك أمام تحديات هذا العالم؟ أو لماذا أنت صامت يا الله؟ نقرأ هذه المقولة علي حائط أحد المخابئ بألمانيا حيث كان بعض الأسري مختبئين هناك أثناء الحرب العالمية الثانية: أؤمن بالشمس حتي وإن لم تسطع, أؤمن بالحب حتي وإن لم أشعر به, أؤمن بالله حتي عندما يصمت. نستطيع أن نتأمل هذه الكلمات العميقة للرد علي أسئلة عديدة تواجه إيماننا وصمت الله تجاه الشر الموجود في العالم, هذا الصمت الذي يعتبره البعض موافقة ضمنية ورضي لما يدور من حولنا.
مما لاشك فيه أن الله موجود في حياة كل واحد منا, حتي وإن التزم الصمت, هل ننسي أيوب البار الذي اكتشف في أواخر حياته معني صمت الله تجاه المصائب التي حلت به والتجارب التي طغت عليه, وفهم جيدا أن كل شئ كان يحدث معه, له معني ومخطط إلهي لخيره؟ في أحد أفلام Giovanni Guareschi الشهيرة عن حياة الكاهن البسيط والسخي Don Camillo المندفع والمتفاهم, نسمع هذا الرد من السيد المسيح علي الكاهن: أيها الأب كاميللو لا تنخدع وراء السينما والجرائد, لأنه ليس من الحقيقة أن الله بحاجة إلي البشر, لكن الناس هم الذين بحاجة إلي الله. فالنور موجود حتي في عالم من المكفوفين, وكما قلت من قبل: لهم أعين ولا يبصرون, فالنور لا ينطفئ إذا كانت الأعين لا تراه.
لا يستطيع أحد أن ينكر ارتباط الله بالبشرية التي خلقها وأحبها ويتألم من أجلها نتيجة خيانتها وبعدها عنه, وكما يجب أن نضع في الاعتبار بأن الله موجود من أجل البشر وينتظرهم دائما حتي وإن تجاهلوه أو أنكروا وجوده, فالله لا يترك الإنسان مهما ابتعد عنه, كما أنه لا يكف عن وجوده الفعال في الأفق, حتي وإن لم تره أعيننا, كما أن النور موجود في عالم المكفوفين. وهنا يدور في الذهن سؤال الكاتب الإيطالي Gesualdo Bufalino: إذا كان الله موجودا, فمن هو؟ وإذا لم يوجد, فمن نحن؟, فمن الواضح والجلي أن الإنسان لا يساوي شيئا دون الله.
لا أحد منا يشعر بحزن الله لما يقوم به الإنسان من مساوئ وأخطاء ودمار تجاه الآخرين, فالله يشع حبا تجاه خليقته تاركا إياها بكامل حريتها حتي وإن انسلخت من بين يديه, وكل فرد يبتعد عن الله يسبب ألما وجرحا في قلب الله, ولكن لا يتركه ولا يهجره حتي لا يضيع في عالم النسيان واللاوجود. فالإنسان هو الذي يقرر مصيره في أن يكون بجوار الله ويشعر به في كل حياته أم أن يبتعد عنه وكأنه في الجحيم.
يحكي عن أحد المعلمين الذي كان يحلم بأنه ذهب إلي ملكوت السموات, وتم السماح له بأن يصل إلي الهيكل الموجود به حكماء الكتاب المقدس, ووجدهم حول مائدة منهمكين في قراءة الكتاب المقدس, ولكنه صدم من هذه النهاية فاضطر أن يسأل: أهذا هو ملكوت السموات؟! فسمع صوتا يجيبه: أنت مخطئ, لأن القديسين ليسوا في ملكوت السموات, ولكن الملكوت داخلهم.
إذا فحياتنا الأبدية تبدأ من هنا وهي اشتراكنا في الحياة الإلهية, كما أنها عطية وهبة وحب من الله, فكل إنسان يعيش علي هذه الأرض في اتحاد تام مع الله عن طريق المحبة والإيمان والبر, يحمل بداخلها الملكوت أينما ذهب. حتي أن نعمة الله تشع عليه وتتجلي فيه إلي أن يصل إلي القداسة, ومما لاشك فيه أن قراءتنا وتأملنا ومعايشتنا لكلمة الله تساعدنا علي الشعور بالملكوت, وعندما نكون أمام وجه الله بعد هذه الحياة سنصل إلي ملء المعرفة والقداسة, وكما يقول بولس الرسول: وأما يومذاك فتكون رؤيتنا وجها لوجه. اليوم أعرف معرفة ناقصة, وأما يومذاك فسأعرف مثلما أنا معروف (1كور13:12). إذا سماع كلمة الله والخضوع لها تصبح مسيرة للوصول إلي اللامتناهي ومدخلا للملكوت, وكما يقول داود النبي في المزمور: لأني ملك لك (مز118:94).