خلف كل فرحة عمر، وراء كل ليلة عمر، حكاية ضاربة في العمق، حكاية حزينة كل أطرافها مظلومين، وتتشابه الحكايات وتتشابك التفاصيل، لكنها تظل واضحة وضوح الشمس.. إنه الفقر الذي يرثه البعض عن ذويهم أو يبتلون به علي كبر، وما أصعب العوز بعد الستر، إنه مذلة النفس، وانكسار الكرامة، وانحناء العزة أمام طوفان الظروف، لم يعد لدي الجديد من المرادفات ولا الحديث عن التعبيرات أمام ذات القصص المؤسفة، ونفس الآلام المجحفة، وذات الظروف الظالمة، لم يعد في قلبي مكان لم تحط عليه جروح فتيات في مقتبل العمر، ينتظرن الستر والسعادة ويظل الستر مرهوناً بالمال وتظل السعادة رهن الستر.
“مارينا” ضمن اللاتي تخلى الستر عن ذويهن فدوام الحال من المحال، عمرها 23 سنة، كان والدها عاملاً في محل مصوغات ذهبية، يكسب رزقه وينفق على أبنائه ولا يحتاج لمساعدة أحد، يمتلك منزلاً صغيراً في أحد الأحياء الشعبية، لديه ولدان 18 سنة و20 سنة, وابنة واحدة هي ”مارينا” و الزوجة ربة منزل.
مضت الحياة بلا مشاكل ولا أزمات حتى اندلعت شرارة ثورة 25 يناير، حينها تبدلت الأمور، وتغيرت الأحوال ويا للعجب عندما تكون كلفة الحرية أغلى مما يتحمله البعض منا، فمن دفع التكلفة من دمه أو حياته، ربما لم يعان مثلما عانى الذين دفعوا التكلفة من توقف مصادر الرزق وعوز الأبناء، والعجز عن استمرار العيش كما كان، أو انكشاف غطاء الستر عنهم.
هكذا كان حال والد “مارينا” الذي اضطر صاحب محل المصوغات الذهبية الذي كان يعمل فيه لإغلاق المحل أثناء الثورة في ظل اضطراب الأوضاع الأمنية، وطالت مدة التوقف عن العمل والرجل لا يعرف مهنة أخرى لجلب الرزق.. ضاق الحال وكان الأبناء صغاراً لا يمكن أن يعملوا فقبل سبع سنوات كانوا أطفالاً.
نفسه العزيزة منعته أن يمد يده ويتسول حتى صار الوضع أشبه بمجاعة داخل المنزل، ومع ضغط الظروف اضطر للذهاب إلى الكنيسة لطلب العون، لم يعتد الرجل على معاملة القائمين على كشوف إخوة الرب، فعاد إلي بيته مذهولاً، ارتفع ضغط دمه وأصابته أزمة قلبية مفاجئة، نجا منها بأعجوبة.
بعد فترة كان يحيا خلالها على أمل عودته للعمل، علم بخبر هجرة صاحب المحل إلى أمريكا حينها أدرك تماما أنه لن يعمل مرة أخري.. بدأت الزوجة تبحث عن عمل في خدمة البيوت حتى تنفق على زوجها المريض وأولادها.. قرر الولدان مساعدة الأم في مصاريف المعيشة ومع الدراسة عمل أحدهما بائعاً في سوبر ماركت والآخر في محل دهانات حوائط.
مضت الأيام وأثقل المرض على رب الأسرة أصابه انسداد في شرايين القلب، وضعف في عضلة القلب، ودوال في الساقين، وزادت المصروفات وزاد الهم، إلي أن جاء اليوم الموعود “مارينا” صارت عروساً يتهافت الشباب عليها، الفتاة جميلة الوجه والجوهر، كلما ذهبت إلي مكان تصبح منية الباحثين عن عروس جميلة مؤدبة رزينة لكن يبدو أن تلك المواصفات لا تكفي في أيامنا التي انقلبت فيها الموازين، فللزواج تكاليف لا تستطيع ”مارينا” ولا أسرتها سدادها.
ظلت الأسرة ترفض عريس يتلوه عريس حتى تقدم إليها شاب يصعب رفضه مقتدر مهذب يحبها يملك محلاً وشقة.. إنها فرصة العمر بالنسبة لها.. لم يكن لدى الجميع خيار آخر سوى قبوله مع التحفظ على سر ضيق الحال الذي يمرون به حفظاً لماء وجه مراسم إتمام الزواج. لكن ظهرت أمور لم تكن في الحسبان إذ طلبت عائلة الشاب من أسرة ”مارينا” الجزء الأكبر من فرش الشقة، بعد أن تم تجهيزها بالأنتريه والسفرة فقط، ظناً منهم أن الأسرة قادرة على ذلك، وإقرارا للعدل من وجهة نظرهم، بعد أن حصل الشاب على شقة تمليك، لم تكن “مارينا” قد صارحت أسرة خطيبها بظروفهم العصيبة ولا بعمل والدتها في بيوت القادرين.. لم تكن قادرة على ضياع الحلم فأخبرتهم أن والدتها تعمل في حضانة.
الخوف على الحلم يقود للكذب أحيانا، الخوف على المستقبل يدفع الناس للغش في الحاضر، وتزييف الماضي، ربما ما فعلته يهدد مستقبلها كله، ومشروع زواجها نصحتها مراراً أن تواجهه بالحقيقة، لأن ما بني علي باطل هو باطل.. رفضت في البداية لكن مع مرور الوقت اقتنعت وصارحت خطيبها الذي طلب منها بقاء الأمر سرا بينهما، وأكد أن والدتها تستحق وسام تقدير وليس التنصل من عملها أو الخجل منه لكن يبدو أن ذلك رأيه فقط إنه يعلم موقف والديه مقدماً ويتوقع التفريق بينه وبين حبيبته لم يخطيء ولا لوم عليه فلماذا يعرض زواجهما لأزمات إذا كانت عقليات عائلته بهذا الضيق؟ لايمكن أن نطلب منه أو من “مارينا” احتمال ما لا طاقة لهما به، وظل السر بينهما لكن والديه يطالبون أسرة “مارينا ” بتجهيز بقية الأثاث أجهزة كهربائية وحجرة نوم، وسجاد، وستائر، ومطبخ وخلافه.
مع الضغوط عادت ”مارينا ” إلى أب اعترافها في سرية تامة فمنحها ثمانية آلاف جنيه، كما منحها عريسها خمسة آلاف جنيه، بعيداً عن عيون والديه لكن ماذا يفعل هذا المبلغ في ظل الغلاء الفاحش الذي يعاني منه المجتمع وفي ظل تضاعف أسعار الأجهزة الكهربائية وفي ظل طلبات أهل العريس؟
”مارينا” ضحية الظروف والحلم المخنوق داخل عادات ومعايير المجتمع التعس الخانق، التي تقيس البشر بأموالهم وأعمالهم وليس بعرقهم وجهدهم لتربية أبنائهم.. مجتمع لايعرف سوى المظاهر ولا يؤمن بالمستقبل بل يفتش في الماضي ويعبث بالحاضر.. معايير لا تعرف للعدل سبيلاً.
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة