تعد مصر أولى الدول والحضارات التي قدست العمل والإنتاج، ومن ثمّ قدست العامل والمهن الحرفية، وبفضل هؤلاء المهرة من الصُناع والفنانين والنحاتين الذين كانوا يعملون في الخدمات العامة، فقد شيدت وقامت روائع الأعمال المعمارية من العمائر الدينية والجنائزية والتي تُعد من أهم معالم الحضارة المصرية القديمة.
كان الملك “أمنحوتب الأول” هو أول من فكر في تكوين مجموعة خاصة من العمال والنحاتين والفنانين. وفي عصر الدولة الحديثة بدأ العمال يستقرون في قُرى خاصة بهم ليكونوا بالقرب من عملهم فاستقروا بقرية أطلق عليه “مكان الحق”
وكان اللقب الكامل لأي عامل في الجبانة الملكية إبان الأسرة الثانية عشرة هو “الخادم في المكان العظيم” أو “الخادم في المكان الجميل لجلالة الملك”، وفي عصر الرعامسة أطلق عليهم لقب “خُدام ساحة الحق”.. وكان المسئول عن كل المجموعة شخصاً يحمل لقب “كبير العمال”، وكان يُعينه وزير ليقوم بتوزيع العمل على العمال وكان يشرف على توزيع الحصص التموينية “الأجور”، ويساعده في عمله “نائب كبير العمال”، ثم يأتي في المرتبة الثالثة “كاتب المقبرة”، الذي كان يسجل العمل المنفّذ في المقبرة الملكية ويوزع مواد وأدوات البناء من المستودعات الملكية ويسجل المتغيبين عن العمل.
وقد عُثر على “أوستراكا” – قطعة من الفخار – مؤرخة بالعام الأربعين من حكم الملك “رمسيس الثالث” محفوظة بالمتحف البريطاني، كتب عليها رئيس العمال أسماء عماله البالغ عددهم ثلاثة وأربعين عاملاً وأمام كل اسم عدد أيام الشهر التي غاب عن العمل فيهم، كما كُتبت أعذار التخلف بالمداد الأحمر أمام كل تأخير وكان من ضمن هذه الأسباب المرض، لدغة العقرب، الذهاب إلى تقديم القرابين للمعبودات. وكان بعض العمال يوصفون بالألقاب التي تدل على مهنتهم الأصلية فنجد من بينهم قاطع الأحجار، الحفار، النحات، النقاش والرسام.
وعلى درب أجدادهم سار الوضع في وحدة انتاج النماذج الأثرية التابعة لوزارة الآثار ومقرها المبنى الأحمر بقلعة صلاح الدين الأيوبي.. ففي الوحدة أيادي تعزف بروح فنية في سيمفونية واحدة لإحياء فكرة “ساحة الحق”..
أياد نارية تنحت التماثيل وتشكل الاخشاب وتطوع المعادن وتنقش الخزف كأجدادهم الفراعنة.. وحدة الانتاج تعمل كخلية نحل هدفها الرئيسي الجودة والتميز وتقديس العمل وتظهر منتجاتهم معلنة عن الفخر بالحضارة المصرية وعراقتها.
تجولنا وسط الفنيين والفنانين في وحدة إنتاج النماذج الأثرية لمعرفة طبيعة عملهم. وبدلاً من أن نصف ما نراه من مراحل عمل داخل خلية النحل فضلنا أن ننقل الأعمال بأقسام الوحدة على لسان أصحابها:
قسم النجارة
عم عثمان: يتم تجهيز كتلة خشبية من أجود أنواع الخشب لنحت تمثال فرعوني بالمقاييس المطلوبة طبق الأصل الأثري. ثم نقش الرسومات أو التفاصيل التي تظهر على أصل التمثال الفرعوني كاملة حتى وإن كانت عوامل تعرية أو تلفيات في الأصل يتم نقلها أيضا كما هي.
محمد أنور: العمل في ورشة النجارة لا يقتصر على التماثيل فقط، بل يتم عمل قطع من الأثاث بنفس أسلوب التصنيع الذي كان يتم في العصور القديمة. ومن ضمن نماذج الأثاث المشهورة كرسي العرش وكرسي الطفل الموجودين بالمتحف المصري، وهذه القطع الأثرية من الأثاث تعتمد في طريقة تجميعها على فكرة النقر واللسان والذي يعتبر من أمتن الطرق للتثبيت، فبرغم أن تصميم الكرسي يرجع لأيام الفراعنة إلا أنه أقوى من أي منتج في السوق الأن.
وقبل بدء تنفيذ أي نموذج من النجارة، نتسلم من أخصائي الوحدة، رسومات دقيقة بمقاسات ونسب الأثر القديم حتى يخرج المنتج بأعلى جودة.
ثم نقوم بنحت الجانبين والضهر مثل الأصل بالضبط.. وقيمة القطعة المنتجة في وحدة امتاج النماذج الأثرية أنها انتاج يدوي والخامات المستخدمة على أعلى مستوى..
وبعد الانتهاء من تجهيز القطع الخشبية تذهب لباقي الأقسام للتطعيم بالحجارة شبه الكريمة وبعده قسم الخزف والطلاء.. فنحن نعمل كفريق متناغم مثل التروس التي تعمل مع بعضها فكل قسم يقوم بمرحلة والقسم الآخر يكمل وراءه العمل حتى يخرج منتج جميلاً ومتيناً.
قسم الخزف:
عم محمد.. أعمل في هذه الصنعة منذ 55 عام، وهنا في قسم الفخار نستخدم طين أسوانى أحمر وطين أبيض إيراني مستورد من إيطاليا، يتم تشكيل الأواني بالطين الأحمرعلى الكرسي الدوار بكل دقة ليكون مماثل للصور والمقاسات المطلوبة.
محمد هلال.. نستخدم أيضا القوالب لكي نصب فيها التماثيل الفرعوني بمادة الطين الأحمر الأسواني أو الأبيض الإيراني، مثل الجعران الفرعونى وبعض التماثيل التى يكون عليها الطلب كبير.
محمود حمدى.. هنا فى قسم الخزف، أنا دوري هو الرسم والتلوين على المنتجات الخزفية، مثل المشكال المكتوب عليه بالخط العربى فأقوم بتلوين الكتابة بألوان طبيعية تأتي من الجبال ويتم طحنها، وهذه الألوان تتجانس مع الفخار.. وبعد ما أنتهي من تلوينه ينتقل للتشطيب والطلاء بمادة الجليز ثم يدخل أفران ذات حرارة عالية كأخر مرحلة..
عم رجب .. أنا دوري يأتي في أخر مرحلة في قسم الخزف، حيث يتم وضع المنتجات الطينية في الفرن لحرقها تحت درجة حرارة معينة وبعدها تحول لقسم الرسم، لرسم الاشكال عليها وبعد ذلك يرجع الفخار المرسوم مرة أخرى ليأخد طبقة الجليز ثم يوضع في الفرن مرة تانية كمرحلة نهائية.
قسم الصب والاستنساخ:
أيمن حسن عابد.. دور القسم هنا أنه يحول التمثال المنحوت من فنان لمنتج نستطيع تكراره لكي يمكن للعديد من الناس اقتناؤه.. وتبدأ هذه المرحلة بعمل ما يسمى “الاسطنبا” للتمثال المنحوت وهذه الاسطنبا تكون من مادة السيليكون لأنها مادة لينة يمكنها أن تتشكل بأدق التفاصيل حول التمثال.
ومن هنا يمكننا صب داخل الاسطنبا السيليكون، مادة الفايبر جلاس التي تتميز بالصلابة وخفة الوزن، لانتاج العديد من النماذج لنفس التمثال بأي حجم مطلوب.. وبعد ذلك تذهب التماثيل الفايبر جلاس إلى قسم التشطيب والتلوين لكي يتم تلوينها والرسم عليها لتكون طبق الأصل من التمثال الأصلي.
قسم النحت
عبد الرحمن الجورجي.. لكي أبدأ نحت يجب أن أدرس التمثال جيداً وأدرس مقاييسه وأذهب لزيارته وتصويره أكثر من مرة، حتى يخرج المنتج النهائي طبق الأصل من الأثر، خصوصاً عندما يكون المقياس المطلوب مقياس 1:1 من التماثيل الكبيرة. وأهم خطوة في هذا المجال هي أنني أرسم سكيتشات بنفسي للتمثال تكون دليل لي لتفاصيل في التمثال.
المواد المستخدمة تكون إما الجبس أو الصلصال أو السيليكون والفايبر جلاس، ويتم اختيار المادة المستخدمة على حسب حجم التمثال وتفاصيل النقوش عليه..
أبدأ التمثال بالهيكل الأصلي وأبني الكتل من حوله إلى أن أصل للتفاصيل الدقيقة النهائية لنصل إلى منتج نسبه متزنة ومتكامل.
قسم المعادن
عم صلاح.. أنا في تلك الصنعة من 40 سنة، هذه الصنعة لها أكثر من تقنية للعمل على المعادن النحاسية. هناك الحفر والريبوسيه والتطعيم بالفضة.
أنا أعمل الأن على قطعة بطريقة الريبوسيه، بعد ما الشكل النحاسي يرسم عليه ويتم نقشه بقلم رفيع ليكون دليل لاستكمال العمل، فنبدأ “تربيص” الشغل على النحاس. وعملية “التربيص” تتم بتثبيت القطعة النحاسية على خشب ويتم طرقها بأقلام وشواكيش من الحديد لتتشكل نقوش منها الغاطس والبارز فتظهر الرسومات بوضوح.
قسم التذهيب
هذا القسم يتسلم التماثيل لتحويل لونها إلى اللون الذهبي.. تبدأ أول مرحلة بدهانه بمادة مكونة من بودرة النحاس، ثم الدهان بالجمالاكة وأخيراً يستخدم ورق الذهب ويتم لصقه على التماثيل، ليصل إلى شكله النهائي.
قسم الرسم والتلوين
أحمد عزت.. دور هذا القسم هو استلام المصنوعان من قسم الصب والاستنساخ سواء الفخارية أو الفايبر جلاس أو الجبس، واستلام أيضا المنتج المذهب.
ومن هنا نبدأ الرسم على المنتج كل التفاصيل التي توضح الملامح أو الكتابة باللغات المختلفة تتم في هذا القسم أيضا، وكذلك أي علامات أو شروخ في الأثر الأصلي يتم تقليدها في هذا القسم.
قسم التطعيم والاحجار الكريمه
عم نادي سري.. يأتي هذا القسم بعد أعمال النجارة وأعمال المعادن، ليتم ملئ المنتجات – سواء قطع من الأثاث الخشبية أو قطع معدنية من الجواهر أو الخناجر المعدنية، بالألوان التي تتمثل في الحقن باللدائن أو تركيب أحجار شبه كريمة على المنتج.
فأغلب المجوهرات والخناجر تكون صب نحاس وتأتي للقسم هنا لكي ترصع الأحجار شبه الكريمة. أما قطع الأثاث الكبيرة مثل الكراسي، فتلون بنظام الحشو باللدائن، فنستخدمها كعجين لين ثم تدخل الفرن لكي تصبح حجر صلد.
كل تلك الورش تشتغل في تناغم مع بعضها لتنتج شكل إبداعي جميل في النهاية، وبعد كل مرحلة يوجد ناس متخصصة لمراجعة العمل بدقة، إلى أن يستكمل المنتج ويحول إلى قسم التغليف مع إضافة بطاقة شرح لكل منتج تسجل فيها بيانات الأثر الأصلي وحجمه ومكان اكتشافه وبيانات المنتج الحالي وحجمه والمادة المصنوع منها.