شببنا ونحن نلهث في الطرقات، نحلم بالمستقبل، والحاضر يفتك بأحلامنا، نلعن الواقع ونخوض حرباً مع الحياة، ولا ننتصر نصنع من حاضرنا عدواً، نخشاه نناطحه، ننكره أحياناً ونختبيء منه في أحيان أخرى، وتظل رحى الحرب بيننا دائرة إلى أن نواجه أنفسنا، ونصادق الخلل في علاقتنا باللحظة الراهنة نعترف أننا أخفقنا، ونعيد البناء من جديد، ننسى الصور المؤلمة التي نستدعيها من صندوق الماضي، ظناً منا أنها تحملنا للمستقبل المأمول، أو تجلب لنا الغفران عن خطايا ارتكبناها سهواً أو عمداً، إنه ذكاء التعامل مع اللحظة الراهنة، فإما أن نعبرها بسلام إلى مستقبل يتسع لتحقيق أحلامنا به..
وها هو مثالنا النموذجي ذلك الرجل الحائر بين ماضيه وحاضره ومستقبله، إنه “راغب” الذي توقفت عقارب الساعة أمام عينيه عند مؤشر الألم في ماضيه، فعلق بكليهما رافضاً المرور من ثقب الآلام لبراح المستقبل، جاءت زوجته ”مريم” تستنجد بنا بعد أن عجزت عن سداد الإيجار الشهري.
وجهها الملائكي لم يمنع بصمات الحزن من أن تحط على ملامحه، إنها سيدة شابة تبلغ من العمر ثلاثين عاماً، لديها طفلان – الإبن في الحادية عشر من عمره والإبنة في العاشرة من عمرها، تحيا مع والدة زوجها “راغب” الذي يعمل في صناعة صناديق الموتى، ظلت صامتة وعيناها عالقتان بالباب، ثم استأذنت مريم لتغلق باب الحجرة التي نجلس فيها خشية أن يسمعها أحد طلباً في الستر قبل العطاء، أغلقنا الباب وبدأت تروي قصتها الحزينة.
“معايا دبلوم تجارة واتجوزت أول ما خلصت دراستي، وجوزي كان شغال في مكان كبير لصناعة صناديق الموتى، ومرتبه كان كويس وكنا مستورين، خلفت ولد وبنت، لكن الحالة اتدهورت جداً وتقريباً عايشين على البلاط حالياً”..
شق حديثها شخص يقرع باب الغرفة، رجل في الثالثة والثلاثين من عمره يستأذن في الدخول، إنه ”راغب” الزوج المطحون الذي يبحث عن مساعدة.. طلب أن يروي هو ما حدث له، حتى يكون دقيقاً فقال: “في ليلة من ليالي الصيف، بعد ما خلصت شغلي رحت قعدت مع أصحابي على القهوة ووقتها كنت لابس تي شيرت نص كم، وطابع وشم وش السيد المسيح على ذراعي وكتفي والوشم ظاهر من الـ”تي شيرت” فجاء أمين شرطة وظابط، كانوا لابسين ملكي فماحدش عارف أنهم شرطة، وقف الظابط وسألني أيه ده ؟ رديت: ده وش المسيح، فالظابط قال لي: أنت بتعمل بيه يعني؟ رديت وقلت له: أنت مالك فالظابط اتنرفز وماحستش بنفسي إلا وأنا بأضربه لأنه أزدرى ديني وإلهي، بصراحة خرشمت له وشه وهو كمان ضربني ضرب موت، بس بعدها القانون مشي علي أنا بس وهو خرج منها، وأنا أخدت سنة سجن.”
يكمل راغب: “سنة مش بأشوف عيالي وإزاي أشوفهم ويفضلوا فاكرين طول العمر شكلي وأنا في السجن، سنة بعيد عن أمي ومراتي، سنة شفت فيها الذل، سنة والنار بتاكل في قلبي من القلق على بيتي وأولادي، بأتقطع لأن مراتي ماكانش لها مورد رزق فاضطرت تنزل تشتغل عاملة نظافة في الكنيسة، تمسح وتكنس ورا الناس، وتستني ده يديها جنيه وده يديها خمسة جنيه علشان تسد جوع العيال، أو تروح للدكتور مع أمي وأنا في عز شبابي ورا الأسوار.”
إنهار راغب في نوبة بكاء طويلة وترك الحجرة ليلجأ إلى السلم الخارجي، دفن وجهه بين يديه، مثلما يضع أجساد الموتى بين خشبتين في صندوق مغلق، جلس على الأرض، وخرجت زوجته لاهثة خلفه، لكنه طلب منها أن تعود ثم يلحق بها، فعادت مريم للحجرة بوجه علاه الإحمرار من فرط الانفعال والحزن وبدأت تكمل ما توقف عنده راغب قائلة: “لما جوزي كان في السجن كنت بأمسح وأكنس في الكنيسة ولغاية دلوقت لأن مافيش مورد رزق يستر وكنت بأجيب خرز وأعمل منه جلاليب لكن ماقدرتش أكمل لأني بأرجع بعد يوم من النظافة مش قادرة أقف، خصوصاً أني عندي روماتيزم في القلب.
ولما خرج راغب من السجن حاول يرجع لمكان شغله لكن للأسف صاحب الشغل مارضيش وهو مايعرفش يشتغل شغلانة تانية غير دي، كان كل حلمه يعمل مكان لنفسه يصنع فيه الصناديق ويقدر يعمل مستقبل لعيالنا، لكن راح الحلم بعد كدة أخدته ورحنا الكنيسة وحكينا لأبونا كل الحكاية، فوافق يساعده والكنيسة خصصت له مكان صغير يعمل فيه صناديق الموتى لإخوة الرب وبياخد في الأسبوع 300 جنيه يعني في الشهر 1200 جنيه، وأنا مرتبي 400 جنيه وأمه معاشها 325 جنيه.. يادوب بيقضوا علاجها بالعافية يعني دخلنا على بعضه 1600 جنيه والإيجار لوحده ألف جنيه، لأننا عزلنا من المكان القديم علشان ماتحصلش مشاكل بعد ما اتسجن واخدنا شقة إيجار جديد.
البيت فاضي لا فيه عفش ولا سراير ولا أي حاجة مافيش غير سرير بينام عليه العيال، وأحنا بننام على الأرض، والمشكلة إن الإيجار مكسور علينا 3 شهور ومافيش عفش تعبنا من النوم على الأرض، تعبنا جداً”.
وما أن أنهت مريم حديثها حتى دخل “راغب” مرة أخرى ليستعيد توازنه مبتسماً كأن شيئا لم يكن، ليقول:عمرك شفتي واحد كل حلمه يعمل صناديق أموات؟
ضحكنا جميعاً وربت على كتفيه وقلت له: هكذا يكون الرجال أخطأت وتحملت نتيجة الخطأ وخرجت مرة أخرى للحياة فعليك أن تتعلم من ماضيك لم يطلب منا المسيح أن ندافع عنه بالضرب والإيذاء.
تذكر بطرس الرسول الذي مارس العنف على قائد المائة وقطع إحدى أذنيه عندما جاء للقبض على السيد المسيح، ماذا فعل السيد؟ لقد أعادها إليه، لم يقبل العنف بحجة الدفاع عنه وها أنت خارج أسوار السجن الآن، عشت التجربة بمرارتها ودروسها لا داعي لاستعادة الذكريات المؤلمة.
عش حياتك كما ينبغي أن تعيش مازلت شاباً ولديك زوجة مكافحة ونحن معك اليوم.. منزلك خاو من الأثاث إنما غداً من يعلم.. ثق أن الله قادر على كل شيء لأن الله يعاين ويرسل ولا أحد يمنع، يمنح من فيض نعمته، في الوقت المناسب عبر صناديق للموتى أو كنوز للأحياء.. لا نعلم فلا تتعجل..
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة