يا لطول أناة الله وحلمه.. فبعد أربعين سنة تعليم وتهذيب فى مدرسة الله فى البّرية، يأتى القدير ويطلب من موسى ان يذهب ليحرر شعبه، فيمتنع ويختلق الأعذار!! خمس مرات متتالية وهو أمام العليقة المشتعلة!!
موسى الذي حاول أن يخلصهم بزراعة البشرية فى الماضي، اليوم يرفض برغم وعود الله له ومعجزاته التى رآها بل وفعلها بنفسه!
يقول الرب فى الكتاب المقدس: “فقال موسى للرب: أستمع أيهاالسيد ، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول أمس ، ولا من حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان ” ، فقال الرب: ” من صنع للانسان فماً ؟ أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرًاً او أعمى؟ أما هو الرب؟ فالان أذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به ” فقال : “استمع أيها اليسد، أرسل بيد من ترسل” ، “ابحث عن شخص آخر” ، فحمى غضب الرب على موسى وقال : “أليس هارون اللاوى أخاك ؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضاً ها هو خارج لاستقبالك ، فحينما يراك يفرح بقلبه، فتكلمه وتضع الكلمات فى فمه، وأنا اكون مع فمك ومع فمه، وأعلمكما ماذا تصنعان وهو يكلم الشعب عنك، وهو يكون لك فمًا، وانت تكون له آلهاً وتأخذ فى يدك هذه العصا التي تصنع بها الآيات” ( خر4 : 10-17 )
ما زلنا أمام العّليقة المشتعلة نارًا وصوت الله الصادر منها مكلفاً موسى بالعودة الى مصر لكى يخلص شعبه من العبودية ويخرجهم من مصر الى الارض التى تفيض لبناً وعسلاً.
ولكن لم تكن مقاومة موسى نقصاً فى محبته لله أو قصوراً فى طاعته أو عدم مبالاة بشعبه الذي يعاني من مرارة العبودية، ولكنها كانت خوفًا من عظم المسئولية التي كان يرى نفسه أصغر جداً من تحملها لذلك أعتذر مرة أخرى بكونة ثقيل اللسان، وظن بذلك أن الله سيتركه لحال سبيله لأن هذة المهمة بالذات تحتاج الى فصاحة فى الكلام وقوة إقناع وهو لايمتلك أياً منها.
والعجيب جداً أن يعتذر موسى بهذا العذر فهو الذي قيل عنه: “فتهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدراً فى الأقوال والأعمال” ( أع 7 : 22) فكيف يقول الكلام هذا عن نفسه ؟!
لقد شرح لنا العلامة اوريجانوس هذا اللغز عن بقولة :
خلال إقامة موسى في مصر عندما تهذب بكل حكمة المصريين، لم يكن ضعيفاً فى الكلام ولا ثقيلاً فى اللسان، ولم يظهر فقط بلا طلاقة فى التعبير ، بل كان ذا صوت مجلجل ولباقة لا تجازى ولكن منذ سماع صوت الله وتقبل كلامه الإلهي، أحس أن صوته ضعيف وعليل، وأدرك أن لسانه ثقيل ومتلعثم، واعترف أنه أبكم فى اللحظة التى أبتدأ يتعرف فيها على الكلمة الحقيقى الذى “كان منذ البدء عند الله”،
وهذا هو نفس الشعور الذي جعل المرنم ( آساف ) يقول في المزمور: “صرت كبهيم عندك ” ( مز 73 : 22 ) ، وذلك عندما قارن حكمته البشرية مع الحكمة الآلهية
ولعل أيوب الصّديق عبّر عن ذلك بقوله: “قد علمت انك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك امر. فمن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة. ولكني قد نطقت بما لم افهم. بعجائب فوقي لم اعرفها. بسمع الاذن قد سمعت عنك والان رأتك عيني.” (أى 42 :2-3 ،5 )
لم يقبل الله عذره، فأخذ يقنعه أنه هو الذى صنع للانسان فمًا، وطلب منه أن يذهب وهو سيكون مع فمه (أي سيتحدث على لسانه)
هذا الوعد هو أساس كل خدمة لأن الخادم ل لا ينقل كلامه بل كلام الله وهو يفعل ذلك منقاداً بقوة الروح القدس، ولذلك لا تنظر الى ضعفك وعدم قدرتك فالله لايدعو المؤهلين الى الخدمة بل هو الذى يؤهل المدعوين لخدمته ولكن رغم كل التشجيع والوعود، فقد أصر موسى على الاعتذار للمرة الخامسة، مع أنه لم تبق له حجة بعد.. والآتى بعد جدول يظهر هذه المرات الخمسة، وماذا كان رد اللة عليه
:
أعذار موسى
رد الله عليه
من أنا حتى أذهب الى فرعون ، وحتى أخرج بنى أسرائيل من مصر ؟
أنى أكون معك وحبنما تخرج الشعب تعبدونى على هذا الجبل
و إذا قالوا لي: ما أسمك ؟ فماذا أقول لهم ؟؟
قل لهم ” أهية الذى أهية ”
” ولكن هاهم لا يصدقوننى ولا يسمعون لقولي، بل يقولون: لم يظهر لك الرب ”
تتحول العصا الى حّية واليد البرصاء ، وتحويل الماء الى دم
لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول أمس، ولا من حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان ”
” من صنع للأنسان فماً ؟أذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به”
” أسمع أيها السيد ، أرسل بيد من ترسل ”
” غضب الرب، وكلف هارون بمساعدته”
والعجيب أن الله لم يرفضه، ولم يبحث عن شخص غيره كبديل، بل احتمل ضعفه بمحبة عجيبة، وأوجد له حلاً يتناسب مع ضعف إيمانه، فكلم هارون لكى يرافقه ويتكلم نيابة عنه.. يا لطول أناة الله وحلمه العجيب على عبيده!