جاءت ”حياة” تبحث عن الحياة ربما تجد من يعينها على مواجهة مصائب العصر، وجهها يعلوه الإحمرار، تشرح في خجل، تروي في تردد، تتقدم خطوة وتعود إلى الخلف خطوات عبر حديث متقطع، تنظر إلى شقيقتها التي صاحبتها في جلستنا، ثم تصمت برهة وتعود لتقول: “مش عارفة أقول لك إيه يا أبلة، ربنا يكفيكم شر غفلات الزمن”.. لم أتمكن من فهم قصتها جيدا، فقررت الذهاب معها إلى منزلها ربما يمنحها ذلك القدرة على الحديث.
وتركنا الجريدة لنرحل سوياً إلى منزلها في حي روض الفرج، وهناك حيث تقطن في حجرتين تحت السلم في مدخل بيت من بيوت الحي العشوائي المتهالك بالقرب من حكر أبودمة، رأيت ما لا يسر.. إنها منطقة تعج بالمدمنين وتجار التجزئة في عالم الكيف الحرام.. المخدرات..
عالم طبع بصمته علي كل وجه، وفوق أرصفة الطرقات، وجوه عابسة، نساء يرتدين السواد على قمم الحارات يجلسن، لا أعرف ماذا ينتظرن أم أنها عادات لم يخلصهم منها الزمن، ولا عشوائية المكان، أطفال كقطيع الغنم يركضون في الأزقة، حفاة الأقدام، ملطخي الأوجه، ورجال ينظرون إلينا وكأننا جئنا من كوكب آخر، كل يتساءل ربما يحصد رزقاً جديداً، وشباب اختفى نور الأمل من وجوههم، واختفت معه كل ملامح البراءة، والصحبة، والأخلاق.
شققت الدروب بينهما.. في صحبة ”حياة” وشقيقتها وكلي وجع ممزوج بالخوف، كلي حيرة وتساؤلات على رأسها أين الحكومة؟ استوقفني شاب قائلا: “أهلا يا أبلة محتاجة حاجة.. عندنا أحلى أصناف” وقبل أن يكمل جملته صرخت ”حياة” في وجهه ”دي ضيفتي”.. ودخلنا إلى مسكن ”حياة” بعد أن قفز الهلع إلى كل خلية في جسدي، وسألتها كيف تأمنين على بناتك هنا؟
أجابت: ”لازم أحكي لك من البداية” ثم بدأت تروي قائلة: ”اتجوزت من 30 سنة، جوزي راجل غلبان على أد حاله، ساع في مستشفى حكومي بيقبض حالياً 1600 جنيه، يعني زمان كنا ماحيلتناش اللضا، ولا في مكان يلمنا إلا منطقة أكلها الوبا زي دي، والحياة عدت وخلفت ستة، أربعة أولاد وبنتين، ولد صبي ميكانيكي، وولد صبي مكوجي، وولد 19 سنة عنده كهرباء زيادة في المخ، وولد في إعدادي، والبنتان واحدة في أولى إعدادي والتانية في الجامعة، والكنيسة بتساعدنا بـ100 جنيه كل شهر، لكن مافيش أي فرصة نقدر نكمل حياتنا ونعلم العيال الدنيا غالية جدا، وأنا صحتي مش مساعداني أخدم في البيوت.”
تعجبت لحديثها ودار بيننا حوار محزن جدا:
* إذا كان عندك ولدان كبار وبيشتغلوا ليه مش بيساعدوا في المصاريف؟
** لأنهم بيكسبوا بس بيشربوا.
* بيشربوا إيه؟
** الهباب إللي بياخده الشباب، المخدرات الجديدة.
* إيه الجديد مش فاهمة؟
** حاجة جديدة اسمها ستروكس، كانوا الأول بياخدوا حشيش وبعدين برشام، ودلوقت ستروكس، وإللي بياخدوه بيصرفوه، وأنا بأحمد ربنا إنهم بعيد عن البيت باستمرار علشان أخواتهم البنات، ده غير إن الولد الكبير اتلم على أصحاب السوء، وكل ما يقعد معاهم يقولوا له تعالى نديك شقة وعروسة وتموين الكيف.
* وأنتم عايشين إزاي في حي أصلا كله مخدرات، والبياعين واقفين على عينك يا تاجر في الشوارع والحواري، وعلى أبواب البيوت؟
** إحنا ناس غلابة علي باب الله بنقول يا حيط دارينا، للأسف أنتم عايشين في أماكن محترمة ما تقدروش تحسوا بإللي بيجرى في المناطق العشوائية بتاعتنا دي، ولا في حكومة ولا في قانون، ولا في ضابط ولا رابط، كل واحد مع نفسه إما يحمي روحه بالقوة والفتونة، إما بيمشي جنب الحيط.
* للأسف طول ما أنتم جوه المنطقة دي مش هاتقدروا تبعدوا لعنة المخدرات عن أولادكم، ومافيش في إيدينا شيء نقدمه.
** لا فيه يا أبلة أنا محتاجة أكمل تعليم الباقيين يعني أضيع الأربعة علشان اتنين ضاعوا، مش معقول أتخلى عن البنتين، ده فيهم واحدة قربت تخلص المشوار دخلت الجامعة ومصاريفها 3500 جنيه، وإحنا مانقدرش لا على مصاريف الجامعة ولا علي مصاريف المدارس، بندفع الإيجار بالعافية 450 جنيها، إحنا محرومين من كل حاجة، علشان نحافظ علي الباقيين، وهو ذنبنا إننا فقراء وماعندناش مكان نروح فيه؟ تفتكري 1600 جنيه لما تخصمي منهم الإيجار يبقوا 1150، يعملوا إيه؟ دول مش بيكفوا أكل وشرب، هايكفوا مصاريف دراسة إزاي؟
استمعت إلي قصة ”حياة” وتركتها ورحلت، لأستفسر عن ماهية الستروكس، الذي يبدو أنه حتى الآن لم يدرج على قائمة المخدرات، ويسهل تداوله، بالرغم من أنه عبارة عن حشيش مخلق، أي صناعي، إلا أن مضاره تفوق مضار الحشيش الطبيعي بمراحل إذ أنه يسبب ما يشبه التهيؤات الحادة التي تصور للشخص أن البعض يحاول الهجوم عليه والنيل منه، وبالتالي يبادر هو بالهجوم في حالة تشبه ما يحدث في أفلام الزومبي الشهيرة التي يأكل فيها البشر بعضهم البعض.
قد يتساءل البعض لماذا يسمح الله بتلك التجارب المريرة؟ ومهما كانت الإجابات فإنها لا تشفي حيرة التساؤلات، لذلك ما علينا فعله هو العمل من أجل أولئك الذين في ضيقات والعمل من أجل المغلوبين من أهوائهم، المهزومين من ضعفهم، وليس من أجلهم فقط بل من أجل كل من يجني المتاعب بسببهم، كل من يدفع الثمن معهم من ذويهم، حتى لا ننتج المزيد من المهزومين في عالم الكيف.
_________________________________________
تواصلوا معنا عبر المحمول – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة