لا شك أن هناك علاقة وثية بين المبادئ والقيم من ناحية والتصرفات أو الممارسات ناحية أخرى. فهى أمور تبدو مترابطة وغير منفصلة عن بعضها، فنحن نعرف رقي الشخص من تصرفاته أو تصرفاتها، فالشخص الراقي فكريا وقيميا لا يظهر كذلك إلا من خلال تصرفات وممارسات نعتبرها راقية ومحترمة. وكما ينطبق هذا على الأفراد فإنه ينطبق على الجماعات والمجتمعات والمؤسسات، وكما ينطبق على الممارسات الاجتماعية واليومية، فإنه ينطبق كذلك على المعاملات الاقتصادية وحتى الممارسات السياسية التي تعتبر الساحة الأكثر خصوبة للنفاق والكذب والرياء. ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك، لنقول أنه حتى في الممارسات المرفوضة مثل السب والمعاكسات، فإنها تتفاوت حسب قيم الشخص وطريقته في التعبير، فهناك ما تحده حدود لا يتجاوزها، وهناك من يتجاوز كل الحدود. ومع ذلك فإن المسألة ليست هكذا في كل الأحوال، لأن علاقة القيم بالممارسات مسألة مركبة، فهي نسبية لأن القيم ذاتها نسبية، بمعنى أن تصرف ما في سياق معين يعتبر مقبول وفي سياق آخر يعتبر غير مقبول. ومن ناحية أخرى، فإن علاقة القيم بالممارسات أو التصرفات هي عرضة للتلاعب والتدليس، فالتصرفات الراقية قد تكون مجرد أداءات، يمكن للبعض أن يمثلها أو يحترفها سواء كرغبة في تمثيل أو تمثل دور اجتماعي معين، أو من أجل النصب والتحايل على الآخرين. على أى حال هذه الظواهر معروفة وثمة الكثير من المقولات والأمثال الشعبية التي تتحدث عن أولئك الذين يظهرون عكس ما يضمرون. إنها جزء من حياتنا اليومية سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعى أو السياسي.
ولكن ما أريد قوله هو أنه في سياقات اجتماعية تكون هناك درجة من التوازن في معادلة القيم والسلوكيات بالمعنيين الإيجابي والسلبي. بالمعنى الإيجابي، فإن ارتفاع مستوى القيم يخلق توازن بين الأفكار أو القناعات والسلوكيات والممارسات، وهذه مسألة لا توجد في المطلق بل تكون نتيجة لتوافر مجموعة من الشروط في مقدمتها وجود نظم تربية وتنشئة تعلي من قيم الصدق والاحترام، وأطر قانونية تصون الحقوق وتسمح بالمساءلة، فضلا عن منظومة حريات تقلل من الحاجة إلى التحايل والاخفاء والرياء الاجتماعى. أما على المستوى السلبي، فإن انخفاض مستوى القيم يوازيه تدني في السلوكيات والممارسات، ومع ذلك يحدث توازن عندما يتم التكيف مع هذا المستوى المنخفض فتكون القناعات والأفكار متوافقة مع الممارسات، وهو ما يمكن أن نسميه مجازا التوازن السلبي. والتكيف يعني حدوث اتفاق عام على خفض من مستوى الثقة في الآخرين، والتقليل من درجة توقعاتنا الإيجابية.
ولكن ما نسميه مجازا بالتوازن السلبي يعكس معادلة هشة جدا، لأن المضمون يحتاج إلى شكل، الشكل يحتاج إلى مضمون مهما كانت طبيعته، ولكن أن يتلاشى المضمون، فإن الشكل يصبح مجرد حركات فارغة بل مرجعية أو حتى سيناريو. وفى هذا الفراغ تصبح الممارسات والأداءات منفلتة، فهي لا تعبر عن شئ، بل هي ذاتها تفقد قدرتها حتى أن تكون نوعا من الكذب والرياء. فالكذب يصبح كذبا عندما يجد من يصدقه، ولكن عندما نفقد كامل القدرة على التصديق والاعتراف والثقة، لا يصبح للكذب فعالية، بل يمكن أن نقول لمن يكذب: “أنك لست في حاجة لفعل ذلك! ليس بسبب أنك تعرف بأن ما تقوله هو مجرد كذب، ولكن لأنك متأكد أيضا أننا لا نصدق، فلماذا كل هذا الجهد؟
للأسف، إن هذه الحالة باتت سائدة، وعلى ما يبدو اننا سلمنا بالأمر وأقلعنا عن البكاء على القيم والمبادئ، وتكيفنا مع فقدان الثقة، ولم نعد نصدق، وبالتالي لم يعد لدينا طاقة لمتابعة مشهد فاقد للمعنى، إلا بدافع الفرجة أو اجترار الألم أو التهكم على ممارسات وأداءات لم تعد تصنف في خانة الصدق ولا خانة الكذب، إنها مجرد أداءات، وهي موجودة فقط لشغل فراغ لا يتوقف عن الاتساع.