ثمة شئ ما يحدث، يمكن ان نسميه تحولات أو تراجعات أو أى تسمية مفادها أن الأشياء لم تعد كما هي سواء كانت انتماءات، أوممارسات، أو علاقات. ولكن ما الجديد؟ ربما تكون تحولات هذه المرحلة أكثر من مجرد الانتقال من حال إلى حال، وإنما تعني أن الأشياء فى تحولها تفقد الشئ المهم المتعلق بالقيمة والمصداقية، أو ما تبقى مهما. فهى موجودة ولكن بدون اعتراف بأنها ذات قيمة أو أهمية إلا لمن يستفيد من غياب القيمة. فهناك ما يعرف معنى القيمة فلا يجدها، وهناك من فقد الإحساس بالقيمة، فلم يعد يعبأ بها، وهناك من يعيش على ما لاقيمة له. ومع ذلك، فثمة طاقة خفية، قد تكون بدافع الخوف، تجعل كل شئ يحافظ على وجوده بدون قيمة، أو يفقد قيمته لكي يبقى، أو اقة سلبية تطيل فى عمر الأشياء من أجل استكمال صورة باتت نمطية. فالموجود يلغي قيمته ليبقى على وجوده بلاقيمة: الممارسات السياسية تلغى السياسة، والممارسات الدينية تقصى الأديان، والإنتاج الفني يلغي الإبداع، وحتى العلاقات الاجتماعية تلغي الترابط والمودة. إنها مسألة معقدة ولكنها تستحق النظر والتمعن.
لنأخذ أمثلة على ذلك، ربما يكون هناك اتفاق صريح أو ضمني بأن السياسة فقدت مصداقيها، فهي تتظاهر بشرعية خالية من المصداقية، والمسألة لا تتعلق بالخوف أو القمع السياسي بقدر الإحساس باللامعنى. فقد أصبح الكثير من الممارسات والأداءات السياسية هي ذاتها العامل الرئيسي فى جعل فكرة السياسة بل معنى أو جدوى. واذا استدعينا ذاكرتنا القريبة، فقد شهدنا حلال العقدين الأخيرين زخما فى الدفع بإتجاه المشاركة السياسية، والديمقراطية والانتخابات إلخ، ثم جاء الربيع العربي لنشهد صعودا غير مسبوق في الزخم والاهتمام بالشأن السياسي. وأكثر من ذلك، بدأ وأن عالم السياسة المغلق والمنغلق على ذاته ونخبه وعلاقاته قد فتح أبوابه لدخول وجوه ونخب جديدة. ولكن سرعان وما تبدلت الأحوال، وتراجعت الرغبة ليس فقط فيما يتعلق بأهمية المشاركة السياسية، ولكن بجدوى التعامل مع السياسية سلبا أو إيجابا، فقد أصبح المشهد السياسي بنخبه وإعلامه عامل نحر وتعرية لقيمة السياسة.
وبالمثل فقد شهدنا خلال العقود الماضية موجة غير مسبوقة من أجل تأسيس دولة دينية، وفى النهاية كانت محاولات وجرائم الإسلام السياسي، في سياق طموحه لبناء دولة الخلافة، أكثر العوامل التي أسقطت فكرة الدولة الدينية. لقد أغرقنا هذا النمط من التدين بما يكفي من الممارسات لكي يدخل التدين دائرة الشك وعدم اليقين. إنه تدين يلغي الإيمان، وطريقة في تعاطي الأخلاق تفرغها من مضمونها. وحتى ما يسمى بتجديد الخطاب الديني، لم يعد سوى عملية تتسم بالنمطية والرتابة تفرز لغة عن التجديد تنفى معنى التجديد.
والمسألة لا تتعلق فقط بالممارسات السياسية والدينية، بل يمكن إعطاء العديد من الأمثلة فالإنتاج الفني ينفي الإبداع، والإنتاج العلمي ينفي قيمة البحث العلمي، والعلاقات الاجتماعية تنفي التضامن الاجتماعي، والعلاقات العاطفية تنفي الحب. إن الأشياء تنفي وتلغي ذاتها بذاتها. ولذا ليس غريبا أن أن يتفاقم الإحساس بأن الأفعال التي نمارسها أو تُمارس علينا والظواهر التي نعيشها أو نتعايش معها، باتت بلا قيمة حقيقية. ومن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي قد يستشعر بسهولة أن أغلب الناس يتواصلون ولا يتواصلون، يتعايشون في غربة، ويتهكمون على كل ما يمر عليهم. والكثير منا يعلن صراحة عن الرغبة في الإنسحاب والعودة إلى الذات والاحتماء بها، إنه الهروب الوهمي نحو ذات فقدت معنى كل ما هو محيط بها من ممارسات وعلاقات وظواهر، وربما فقدت معنى وجودها ذاته.
وفي الحقيقة أن الأشياء عندما تلغي أو تنفي ذاتها فهذا لا يعني تلاشيها، فهى موجودة ولكن بلا قيمة أو مصداقية، وهي تحركنا يمينا ويسارا للأمام أو إلى الخلف، ولكن كل هذا يحدث داخل دوائر مغلقة على خوائها. صحيح أن هناك من يستفيد وهناك من يخسر، ولكن هذا لا يعطي شرعية لأي حركة أو ممارسة، إن لعبة المكسب والخسارة في هذا السياق هي جزء أصيل من مسارات فقدان القيمة والمصداقية، فالرابح يربح بلا شرعية، والخاسر هو أصلا فى نظر الرابح مجرد كيان بلا شرعية.