عادات وتقاليد واحتفالات الشعوب ليلة رأس السنة التي نودع فيها عاماً ونستقبل آخر، هي حدث استثنائي يترقبه ويتحضر له الناس، في مختلف أنحاء العالم، حيث تقام الاحتفالات والنشاطات والسهرات المتنوعة المختلفة، وتمارس الشعوب الكثير من العادات والتقاليد الاحتفالية التي لا تخلو من الغرابة والطرافة في آن واحد، وذلك تبعاً لموروثات ومعتقدات قديمة، تبعث على التفاؤل بالسنة الجديدة، ليعمّ فيها الخير والحظ . وكانت من أول هذه الاحتفالات احتفال الفراعنة ( قدماء المصريين) بالعام الجديد.
فكيف احتفل قدماء المصريين ببداية العام الجديد؟
يقول الأستاذ سامي حرك، الكاتب والباحث في علم المصريات :”
في البداية نقول إن الاحتفال بالأعياد، هو مظهر إنساني بحت، نستطيع التفرقة به، بين الإنسان وغيره، حيث لم يرصد نشاط احتفالي دوري لأي كائن آخر
وكلمة عيد في اللغة المصرية، طبقا لحروف الكتابة الهيروغليفي، هي “حب”، ومعناها الحرفي يساوي (ضم/ اجتماع)، وفي اللغة العربية يختلف معنى كلمة “عيد” و التي تأتي بمعنى العادة.
في اللغات الأوربية التي تعني الوليمة feast
إذن أي اجتماع دوري هو عيد للمصري القديم، وأول تلك الأعياد يأتي مع بداية السنة الجديدة، وله ثلاثة مظاهر:
المظهر الأول: مظهر فلكي
.لتحديد لحظة بداية العيد؛ لأن عيد رأس السنة الجديدة، ارتبط بظاهرة فلكية، وكذلك معظم أعياد المصريين
المظهر الثاني: مظهر شعبي
احتفل فيه المصريون القدماء، برموزهم الدينية والثقافية، حيث الاحتفال بـ”إيزيس” باعتبارها صورة النجمة “سبدت”، التي تحدد بداية العيد، بمجرد ظهورها النادر مع “رع” الشمس مرة واحدة في السنة، وكذلك الاحتفال برب الحكمة “تحوتي” باعتباره مكتشف التقويم، ويبدع الفنانون في عمل نماذج للأرباب “نترو”، يحتفي بها الصغار والكبار، بالملابس زاهية الألوان، والورود والعطور، تصاحبهم الموسيقى، ويرفعون أصواتهم بالغناء.
ويجدر التنويه إلى أن خروج المصريين للاحتفال بالعيد، لم يكن يعني المكوث في المنزل وعدم الذهاب للعمل في يوم العيد، حيث لا يعقل لشعب ناضل في ظروف بدائية صعبة لصنع حضارته بمجهوده، أن يتبطل عن العمل أكثر من نصف أيام السنة، حيث وصل عدد الأعياد لديهم إلى 79 عيد، لياليها وصلت لقرابة 169 ليلة، لذلك كان الاحتفال بالعيد بالنسبة للشعب يأتي بعد منتصف النهار، أي بعد نهاية يوم العمل العادي، ليكون بمثابة ترفيه، أما الاحتفال بالنسبة للكهنة فهو جزء من عملهم.
المظهر الثالث: مظهر رسمي كهنوتي
لنترك عالمة المصريات “كريستين دي روش نوبلكور” تصف تلك الهيبة الرسمية للاحتفال بالعيد، من خلال ترجمتها للنقوش والرسوم المصورة للاحتفال بالعيد على جدران معبد هاتور
فتصف مشهد من الحشود في موكب مهيب، يتقدمه الكهنة نحو خزانة المعبد، فيحضرون تمثالا على هيئة طائر له رأس امرأة مصنوع من الذهب يدعى (باي)
يتم وضع التمثال داخل ناووس (صندوق) زجاجي صغير، ثم يقوم ثمانية من الكهنة بحمله حيث يبدأ الموكب في المسير، ليتوقف في بضعة أماكن محددة بالمعبد لوضع تيجان مختلفة، ترمز للقوى المتعددة التي تتمتع بها (حتحور)، في بهو يطلق عليه (واعبت) وفي النهاية يقوم الكاهن الذي يرمز لفيضان النيل بقيادة هذا الموكب، فيسكب أمامه الماء المقدس، يتبعه شخص آخر يمثل الملك، يقوم بحرق البخور للناووس، يسير بظهره حتى لا يواجه تمثال حتحور، يأتي بعد ذلك دور حاملي الرموز، بكوكبة من التماثيل، وعند وصول الموكب إلى سطح المعبد يتوجه نحو أحد الجواسق (كشك) موجود حتى الآن، لوضع الناووس به، وعندما تشرق الشمس في موعدها، فإن أول شعاع لها يسقط على وجه (باي) حتحور، لتدب الحياة في أوصاله، حينها تصدح الموسيقى المصاحبة لتلك اللحظة الحاسمة، ومعها أيضًا ترتيل الكهنة، لإعلان ذلك الحدث السعيد.
ويعم الفرح والسرور أنحاء البلاد، وكان الاحتفال بالسنة الجديدة من الاحتفالات الفريدة، فهو بمثابة سر من أسرار الكون، ويمكننا رؤية نقوش هذه المراسم كاملة في معبد حتحور بمدينة دندرة.
ويقول الدكتور محمود البيومي باحث ومفكر في الفكر الفلسفي لعلم المصريات احتفل المصريون القدماء بهذا اليوم واطلقو عليه ”ني- يارؤ” بمعنى ”يوم الأنهار” الذي هو ميعاد اكتمال فيضان نهر النيل، السبب الأول في الحياة لمصر، وحرف الاسم فيما بعد إلى ”نيروز” وهو العيد الذي كان يُمثل أول يوم في السنة الزراعية الجديدة، وقد اهتم المصريون بالاحتفال بعيد النيروز كتراث ثقافى مصرى قديم *والسنة الفرعونية هي سنة شمسية مرتبطة بالنجوم، مقسمة إلى 12 شهرا بكل شهر 30 يوما ثم تليها خمسة أيام أو ستة لتكملة باقي السنة، وقد وضع التقويم المصري القديم العلامه توت الذي اخترع الكتابه، ولذلك احترمه المصريون القدماء ووضعوه منزل الآلهه وأسموه بالإله توت أو تحوت، وبدأوا أول شهور السنه باسمه، وقد تم تعديل هذا النظام حوالي 238 قبل الميلاد بإضافة يوم كل أربع سنوات للسنة الفرعونية، بحيث يتم تثبيت بداية السنة مع الفصول وبذلك ثبتت بداية السنة في شهر سبتمبر.
ومن أقدم التقاليد التي ظهرت مع الاحتفال بعيد رأس السنة صناعة الكعك والفطائر، وانتقلت بدورها من عيد رأس السنة لتلازم مختلف الأعياد التي جعل لكل منها نوع خاص به، وكانت الفطائر مع بداية ظهورها في الأعياد تزين بالنقوش والطلاسم والتعاويذ الدينية، وكانت طريقة احتفال المصريين ببدء العام الجديد تبدأ بخروجهم إلى الحدائق والمتنزهات والحقول يستمتعون بالورود والرياحين، تاركين وراءهم متاعب حياة العام وهمومه في أيام النسئ، والأيام الخمسة المنسية من العام، ومن الحياة وتستمر احتفالاتهم بالعيد خلال تلك الأيام الخمسة- وكانوا يقضون اليوم في زيارة المقابر، حاملين معهم سلال الرحمة (طلعة القرافه) كتعبير عن إحياء ذكرى موتاهم كلما انقضى عام، ورمز لعقيدة الخلود التي آمن بها المصريون القدماء. كما كانوا يقدمون القرابين للآلهه والمعبودات في نفس اليوم لتحمل نفس المعنى، ثم يقضون بقية الأيام في الاحتفال بالعيد بإقامة حفلات الرقص والموسيقى ومختلف الألعاب والمباريات والسباقات ووسائل الترفيه والتسلية العديدة، التي تفننوا في ابتكارها.
ومن أكلاتهم المفضلة في عيد رأس السنة “بط الصيد” و “الأوز” الذي يشوونه في المزارع، والأسماك المجففة التي كانوا يعدون أنواعاً خاصة منها للعيد. أما مشروباتهم المفضلة في عيد رأس السنة فكانت “عصير العنب” أو “النبيذ الطازج” التخمير حيث كانت أعياد العصير تتفق مع أعياد رأس السنة. ومن العادات التي كانت متبعة- وخاصة في الدولة الحديثة- الاحتفال بعقد القران مع الاحتفال بعيد رأس السنة، حتى تكون بداية العام بداية حياة زوجية سعيدة. كما كانت تقام أعياد ختان الأطفال مع نهاية أيام، وبدء العام الجديد .
ومن التقاليد الإنسانية التي سنّها المصريون القدماء خلال الأيام المنسيه أن ينسى الناس خلافاتهم وضغائنهم ومنازعاتهم، فتقام مجالس المصالحات بين العائلات المتخاصمه، وتحل كثير من المشاكل بالصلح الودي والصفح وتناسي الضغائن. وكانت تدخل ضمن شرائع العقيده، حيث يطلب الإله من الناس أن ينسوا ما بينهم من ضغائن في عيده المقدس، عيد رأس السنه التي يجب أن تبدأ بالصفاء، والإخاء، والمودة بين الناس. كان من التقاليد المتبعة أن يتسابق المتخاصمون.. كل مع أتباعه وأعوانه لزيارة خصمه أو عدوه، فيقتسم الضيف مع مضيفه، أو الخصم مع عدوه، كعكة العيد بين تهليل الأصدقاء وتبادل الأنخاب تأكيداً لما يقوله كتابهم المقدس: كتاب الموتى. “إن الخير أقوى من الشر والمحبة تطرد العداء.. وهكذا كان كثير من القضايا يُحل ودياً في العيد، ويتسابق كل إلى بيت خصمه، أو عدوه بصحبة أصدقائه ليكون له السبق في الصالح حتى ينال بَرَكة الإله في العيد المقدس كما تنص على ذلك تعاليم العقيدة”. كما شاهد عيد رأس السنه – لأول مرة- استعراض الزهور “كرنفال الزهور” الذي ابتدعته كليوباترا ليكون أحد مظاهر العيد عندما تصادف الاحتفال بعيد جلوسها على العرش مع عيد رأس السنة. وعندما دخل الفُرس مصر احتفلوا مع المصريين بعيد رأس السنة وأطلقوا عليه اسم “عيد النيروز” أو “النوروز”. ومعناه باللغة الفارسية “اليوم الجديد” وقد استمر احتفال الأقباط به بعد دخول المسيحيه، وما زالوا يحتفلون به حتى اليوم كما ظلت مصر تحتفل به كعيد قومي حتى العصر الفاطمي ثم أصبح حديثاً إحتفالآ عالمياً مدنياً لا علاقه له بأى دين. وكان احتفال المصريين بذلك العيد الذى بدأ من 7523ق. م أول عيد عرفته البشريه، وأقدم مظهر من مظاهر حضارة المجتمع الإنساني .
ومن المؤكد أن هذا العيد انتقل من مصر إلى حضارات الشرق خلال الدولتين القديمه والوسطى، مع فتوحات الغزو المتبادل, كما انتقل عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا عندما أهدت، كليوباترا تقويم مصر الشمسى إلى يوليوس قيصر وكلفت العالم المصرى سوسيجين بجامعة الإسكندريه بنقل التقويم المصرى للرومان ليحل محل تقويمهم القمرى, وأطلقوا عليه اسم التقويم القيصرى , وعملت به روما وبلاد أوروبا عدة قرون حتى قام البابا جريجورى الثالث بتعديله عام 1852م, وهو التقويم العالمى الحالى وهو فى جوهره عمل مصرى ، منحه المصريون القدماء لكل البشريه، كما انتقلت مع التقويم تقاليد الاحتفال برأس السنه .
ويضيف أحمد شهاب الباحث الأثري ورئيس اتحاد آثار مصر لحماية الأثر والبشر
التقويم المصري هو تقويم شمسي وضعه قدماء المصريين لتقسيم السنة إلى 13 شهر، ويعتمد على دورة الشمس. ويعتبر التقويم المصري من أوائل التقاويم التي عرفتها البشرية.كما أنه الأكثر دقة حتى الآن من حيث ظروف المناخ والزراعة خلال العام؛ لذلك يعتمد عليه المزارع المصري في مواسم الزراعة والمحاصيل التي يقوم بزراعتها خلال العام، منذ آلاف السنين وحتى وقتنا هذا. وقد تعرّض التقويم المصري للتغيير في العام 238 قبل الميلاد، من قبل بطليموس الثالث الذي أحدث فيه عدة تغييرات لم ترق للكهنة المصريين، فأجهض المشروع. ولكن تم إعادة تطبيقه مرة أخرى في العام 25 قبل الميلاد على يد الإمبراطور أغسطس الذي غيّر تمامًا من التقويم المصري ليتزامن مع التقويم اليولياني الجديد وهو التقويم المعمول به حتى الآن