إذا فهمت عدوك درجة أحسنت محاربته,وإذا فهمته درجتين أحسنت مسالمته الأديب نجيب محفوظ.هنا نتساءل بحرقة: لماذا كل هذه الحروب؟ لماذا هذا البغض المميت؟ما الداعي للعنف الذي انتشر في العالم كله؟من السبب في كل هذا؟جميعنا يعلم جيدا أن بداية التاريخ البشري كانت بجريمة قتل أخ لأخيه,من يصدق هذا؟وكما ورد في الكتب المقدسة:فقال الرب لقايين:أين هابيل أخوك؟قال: لا أعلم.
أحارس أنا لأخي؟ فقال:ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض(تك4:9-10) تخيل قايين أن أحدا لم يراه,ولن يدري بجريمته أحد,ونسي أن عين الله ساهرة تري ولاتري,ولايخفي عليه أي شيء. ونكتشف من تاريخ البشرية أن هناك أشخاصا يستغلون براءة الغير ليعلمونهم الفساد والقتل ويفتحون أعينهم علي الشر,ولكن لو عرفوا يوما من الأيام ما نتيجة فعلتهم هذه من دمار في النفوس,لماتوا رعبا أمام المسئولية التي سيطالبهم الله بها,لأنهم مذنبون وقتلة في نظر السماء والإنسانية الله موجود ويري كل شئ ويعلم به,ومهما تجاهلنا الله,فهو شاهد علي كل أحداثنا التي نصنعها وسيوجه لكل منا نفس السؤال الذي قاله لقايين:أين هابيل أخوك؟ لا ننكر أن قايين قد تاب علي فعلته,فهل سنجد الفرصة نحن لنتوب عما اقترفناه في حق الآخرين من ظلم وعدوان وقتل وتدمير وتخريب؟فالعنف والحرب يهدما اللوحة الرائعة التي صنعها الله لخليقته بكل حب لنتأمل الكلمات الرائعة التي صدرت من البطل الهندي العظيمVardhamana مؤسس إحدي الديانات الهندية عام400ق.م:أطلب العفو والغفران بسبب العنف الذي ارتكبته في عقلي,والعنف الذي سببته بأقوالي,والعنف الذي صنعته بأعمالي,كلمات بسيطة خرجت من القلب ولكن معانيها جوهرية وضرورية لأن العنف لاينتج من الأيدي فقط أو بسبب كلمات جارحة ولكن لا نستطيع أن ننكر العنف الذي لم يولد في الخارج ولكنه كامن في العقل وينمو في النفس ويتغذي بالانفعال والحقد والكراهية,ولذلك تحثنا الوصايا ألا نشتهي:لاتشتهي امرأة قريبك,ولا تشتهي مقتني غيرك,ويعلمنا السيد المسيح أن نقتلع جذور الخطيئة قائلا: من ينظر إلي امرأة ليشتهيها, فقد زني بها في قلبه(مت5:28),لأن التطهير الضروري والأول يبدأ من القلب والعقل,لأنه من باطن الناس,من قلوبهم,تنبعث المقاصد السيئة…فتنجس الإنسان(مر7:21-23).نفس الشئ يقال عن تجنب العنف والقتل والحرب,نحن بحاجة إلي تطهير عقلي وذهني وقلبي كما كتب الماهاتما غاندي صاحب مبدأ اللاعنفAhimsa من داخل السجن عام1928 كنت أتجرأ وأضع ثقتي في خصمي حتي ولو خذلني عشرين مرة كنت مستعدا أن أمنحه الفرصة الحادية والعشرين وكان هذا المبدأ هو شعار حياته أن يغفر للخصم تاركا له فرصا أخري,وكما سبقه السيد المسيح في حواره مع بطرس الرسول:يارب كم مرة يخطأ إلي أخي وأغفر له؟أسبع مرات؟فقال له السيد المسيح:لا أقول لك:سبع مرات,بل سبعين مرة سبع مرات(مت18:21-22) وهذه الأداة المسالمة استخدمها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني مع الشاب التركي علي آغا الذي أراد اغتياله,فطلب له العفو كما أنه سامحه تماما وذهب للقائه في السجن.للأسف مايدور من حولنا في العالم يؤكد لنا استخدام البعض مبدأ الشاعر الروسيSergej A.Esenin الذي مات منتحرا في الثلاثين من عمره:من لايأكل اليوم,سيؤكل غدا,كثيرون تمسكوا بهذا المبدأ في وظائفهم وتفوقهم علي الآخرين واستغلال ضعف البعض ولكن هذا المبدأ غير أخلاقي ولا يراعي ضمير الناس.ويقول المثل الشعبي:القطة تشعر بأنها أسد عندما تصطاد فأرا لكنها تصبح فأرا عندما تتصارع مع فهد للأسف هذا التصرف المخجل يستخدمه الكثيرون في حياتهم اليومية,خاصة عندما يتعاملون مع من هم أقل منهم ويتصرفون معهم بعنف ويدهسونهم من أجل مصلحة ما: مال, وظيفة, ترقية, شهرة, مكافأة.
وكما يقول عنهم المثل اللاتيني: كالأسود داخل المنزل, وكالأرانب عندما ينزلون ساحة المعركة أو بمعني آخر:قوي مع الضعفاء,وضعيف مع الأقوياء غالبا تجد تجربة التعدي علي الآخرين تخفي جرعة من الرخص لذلك يجب علينا أن نعيد كرامة واستحقاق كل إنسان عن طريق تخطي قدراته أو ضعفاته مركزه الاجتماعي,وهذا هو الدرس الضروري والمهم دائما لنا وخاصة في هذه الأيام التي يسيطر فيها مبدأ النجاح والتفوق علي الآخرين والاهتمام بالمظاهر والحكم عليهم من خلالها فقط إذا لاتوجد قوة أكثر من التسامح واحتمال الآخر تساعد علي نزع العنف من الآخرين,وهذا ما استطاع أن يطبقه المصلح العظيم مارتن لوثر كينج عندما صرح لخصومه:إلي ألد خصومنا نقول: في مقابل قدرتكم علي الاقتصاص منا لتعذيبنا,نحن نضع قدرتنا علي تحمل الألم,وتجاه قوتكم البدنية سنرد بقوة قلوبنا افعلوا ماتريدون ونحن سنستمر في حبنا لكم,لكن لن نسمع لضميرنا أن يتبع قوانينكم الظالمة,لأن رفضنا التعاون مع الشر هو التزام أخلاقي منا يتساوي مع تعاونا في الخيريعتبر البعض هذا ضعف وخنوع ولكنه قمة القوة والقدرة لأن مقاومة الشر بالخير هي عمل من الله وكما يقول الكاتب محمد ذكي عبد القادر: الناس في صراع دائم لأنهم بشر, والملائكة في وفاق دائم لأنهم ملائكة.
من يقرأ التاريخ يجده مليئا بالأشخاص الذين سفكوا دماء ملايين من البشر ودمروا بلادا وشعوبا ومع ذلك يطلق عليهم العظماء,الفاتحين,المنتصرين,السياسيين المحنكين,الأبطال,وكما يقول عالم الأحياء الفرنسي Jean Rostand:إذا قتلت إنسانا,تصبح قاتلا,أما إذا قتل ملايين من البشر علي أيدي أحد الأشخاص يطلق عليه البطل,لذلك غير السيد المسيح هذا المفهوم الخاطئ مناديا: طوبي لصانعي السلام,لأنهم يدعون أبناء الله.هذا يوضح لنا بأن الإنسان مولود وبه نعمة السلام ولكن يتغير بسبب الظروف المحيطة به أو المناخ الذي يحيا فيه وهذا ما يؤكده الفيلسوف الإسباني Jose Ortega: ليست الحرب غريزة في الإنسان ولكنها اختراع منه,لأن العنف يولد من الفهم الخاطئ للحرية أو الأنانية والتعجرف,هذه الكلمات تزرع فينا شعاعا من الأمل الذي به نري قلب الإنسان المشتاق إلي السلام والصفاء والسخاء,لأن العداء بين الناس يفسد الضمائر والأخلاق والحياة كلها لأنه يحولها إلي جحيم,نختم بالمثل الصيني القائل:لو عملت الخير مدة عشر سنوات فهذا لايكفي وإذا عملت الشر يوما واحدا,فهذا كثير.