لم تشهد مصر فى تاريخها الحديث مثلما تشهده الآن من جرائم إرهابية راح ضحيتها مئات الأبرياء حتى الآن، فهي- بلا شك، مرحلة صعبة ومؤلمة ومخيفة، مرحلة فيها من يموت من الإرهاب ومن يعيش بخوفه ومن يتعايش معه. ولأننا نعيش هذه الحالة المزمنة منذ فترة، فقد باتت ردود أفعالنا على كل جريمة إرهابية أيضا معروفة لحد ما. وبشكل عام ثمة تنوع كبير فى ردود الأفعال إزاء الجرائم الإرهابية، فنحن، وإن كنا فى الهم سواء، لسنا كيانات موحدة لها نفس المشاعر أو الإنتهاء أو تتحمل الضرر ذاته، أو تتأثر مصالحها بنفس القدر. ولذلك فمن الطبيعي أن تكون ردود الأفعال متباينة، فمن المؤكد أن ردود أفعال أهل أو أصدقاء الضحايا المقربين الذين يغرقون فى الحزن والألم شئ مختلف عن ردود أفعال الإعلامين الذين يجدون في الأحداث الإرهابية مادة إعلامية، وهذا شئ آخر، حتى وإن عبر كلاهما عن مشاعر الصدمة والحزن أو ارتدوا السواد، وهذا مفهوم على كل حال. ومع ذلك، فإن المسألة أكثر تعقيدا من ذلك، لأنها ترتبط بمحددات أخرى سياسية وثقافية وحتى مزاجية. حتى الشخص الواحد يقدم ردود أفعال متعددة إزاء الجريمة الواحدة. ومع ذلك فإننا نمارس أو نشاهد أنماطا معينة من ردود الأفعال المعلنة أو الخفية.
لنأخذ النمط الشائع حيث تتمثل ردود الأفعال فى عدة مراحل متوالية وإن كانت متداخلة تغطي الفترة الزمنية منذ وقوع الجريمة إلى نهاية الاهتمام بها. ويمكن تصنيف ردود الأفعال خلال هذه الفترة، والتي باتت وجيزة على أى حال، إلى أربعة مراحل وهي: مرحلة الإبلاغ عن الحدث، ثم مرحلة التعبير عن الصدمة والحزن، ثم مرحلة الإعلان عن وجهة نظر أو رأى، ويرتبط بها مرحلة التفاعل مع ردود الأفعال الأخرى. ففور وقوع جريمة إرهابية، يتسابق البعض فى الإبلاغ عن الحدث عن طريق وسائل التواصل الاجتماعى، والبعض يواصل عملية الإبلاغ مع تواتر الأخبار، وخاصة فيما يتعلق بحجم الكارثة وتزايد أعداد الضحايا، وهذه الحالة الإعلامية التى يتقمصها البعض قد تدفعه لا شعوريا إلى تمني أن يكون مصدرا لأخبار أكثر أهمية من حيث قدرتها على إحداث الصدمة، وبالتالي فإن الأسوأ لا يصدمه بقدر ما يلبي رغبة في أن يكون مصدرا لمعلومة أو خبر مثير. وهذا يخص فئات معينة، ففي حين ينشط البعض في هذه المرحلة فإن الكثيرين يظلون فى حالة صمت وترقب وخوف من سماع ما هو أسوأ.
تتداخل مع المرحلة الأولى وترتبط بمرحلة أخرى تبدأ سريعا وفيها تعلو نبرة التعبير عن مشاعر الصدمة والحزن، وغالبا ما تكون مرتبطة بظهور صور عن الحدث والضحايا، وفيها يزيد عدد المعبرين عن صدمتهم وحزنهم بعبارات من الغضب والدعاء على الإرهابيين والمطالبة بالانتقام منهم.. وسريعا تبدأ مرحلة الإعلان عن المواقف. وتشهد هذه المرحلة إشارات تضامن، ولكن أيضا مشادات وصدامات بين المعبرين عن آرائهم، وربما تخف حدة الإهتمام بالحدث ذاته، وتبدأ عملية استقطاب فنجد من ينتفد الدولة ويصب جام غضبه على التقصير الأمنى، مقابل من ينشط للدفاع عنها؛ ونجد من تستقطبه جراح الهوية فيدين الآخر الديني مقابل من ينشط لتبرئة هذا الآخر الديني، أو حتى من يحول الأمر إلى صراع هويات دينية. وربما يحدث وبشكل صريح وعنيف تبادل الاتهامات والتخوين والتشيك فى النوايا.
وبالوصول إلى هذه المرحلة تكون الجريمة الأساسية قد توارت عن الأعين، فتتراجع الصدمة وتتقلص مشاعر الحزن والألم ولا يعود لها وجود إلى في دائرة صغيرة هى دائرة أقارب الضحايا وأصدقائهم المباشرين، وبالمقابل تتسع دائرة الكلام والصور وتتناثر، بلا مشاعر، فى كل اتجاه إلا أن تختفي وتتلاشى تدريجيا، ويحدث كل هذا فى فترة وجيزة يصل فيها الحدث وردود الفعل إلى نقطة النهاية، لتبدأ مرحلة من النسيان والترقب، ويبقى الأمل ونحن فى بداية عام جديد أن يذهب هذا الكابوس إلى غير رجعه.