إلى أن ننتج قواعد لإرساء العدل ستظل جمهورية الظلم أكثر ظلماً، إلى أن نؤسس المساواة بين البشر فينال الغلابة نصيباً كريماً من الحياة، ستظل جمهورية الظلم تحفر مقابر الأحياء في تربة الواقع المرير، وتظل مصايد الفقر والمرض والعوز منصوبة في كل ركن، ولأن الفريسة لا تتغير نستعيد اليوم رواية للأسطى ”مرزوق” الذي كتبنا عنه منذ عام تقريباً، تحت عنوان “مقبرة الأحياء”، حينها زرناه في منزله ولم نصدق أن أحداً في بر مصر مازال يحيا هكذا، وكتبنا نصاً أنه يسكن في حارة تختبئ في بطن حارة في قلب شارع بحي شبرا، عرضها لا يزيد عن 2.5 متر، مساحة لا تقترب من ربع مساحة صالة متواضعة في منازل الميسورين.. باب من الخشب المتهالك مغلق، وإذ تفتحه لا تجد إلا تربة مقبرة لكنها للأحياء، رغم سطوع الشمس في حضن السماء والنور يسطع في إبط النهار، إلا أنك حينما تدخل إلي المنزل لا تجد إلا ضيقاً وظلاماً، رائحة المحن تطل من زوايا سلم هجرته رشاقة الصاعدين وقوة الهابطين درجات قليلة تصل بالقاصدين البيت إلى الدور الأول، وفي الشقة ذاتها لا تجد سوى غرفة وحمام وصالة تفتقر للأثاث اللهم إلا كنبتين متهالكتين، وحجرة بها سرير طبع الزمن على أعمدته نقوش الخواء، بجواره دولاب خاو تستدفئ الفئران بين أخشابه المتآكلة.
هناك في منزل أسطى ”مرزوق” استمعنا إلى قصته: يبلغ من العمر 46 عام ويعمل ترزياً متخصصاً في مجال ملابس الكهنوت والشمامسة وملابس العماد. لم يطلب مرزوق حينها طلبات مستحيلة، ولم يطمع إلا في أقل القليل وكانت كل أمنياته تنحصر في توب قماش ينفذ به طلبية عاجلة، ولا يملك ثمن المادة الخام، فضلاً عن أنه لا يملك ماكينة تطريز، لكنه يذهب لزميل له ويستأجر الماكينة بالساعة، بل ويمنحه مقابل ذلك نسبة من المكسب الذي بالكاد يغطي التكلفة، ونفذنا له ما يريد، ثم جاء إلينا بعد أسبوعين حاملاً إنتاجه ليريه لنا ونفرح معه.
“مرزوق” الذي كان يحيا في ذات الحجرة مع والده ووالدته وخمسة أبناء وثلاث بنات، منهم من ينام راقداً فوق كنبة ومن ينام على الأرض ومن لا ينام أصلاً، دخل في معركة مع شقيقه المتبقي بعد أن تفرق الأشقاء الأخرين.. يريد شقيقه الزيجة في ذات الغرفة فطرد “مرزوق” منها جبراً، وصار بلا مأوى يسند إليه رأسه حينما يغيب عن الوعي مستلقياً في المساء، ليستيقظ صباحاً مستقبلاً فصلاً جديداً من فصول الظلم المبين.. ثم حصل ”مرزوق” على غرفة جديدة وساعدناه حينها في تركيب الشباك والباب والحمام، راضياً شاكراً مبتسماً كحاله دائما..
وبدأ الأسطى ”مرزوق” يفكر في الزواج وجاء إلينا مرة أخري.. حينما التقينا به المرة السابقة كانت شمس الأمل تشرق في وجهه، وبدأ خريف العمر الذي يزوره يتحول ربيعاً متفتحاً، ترمومتر الرضا يرتفع إلى أقصى درجاته رغم أنه مازال يحتاج إلى أثاث وأجهزة كهربائية، مؤشر الحياة كما البندول يميناً ويساراً يتأرجح زفيراً وشهيقاً بعدما عاش في القبور أكثر من خمسين عاما.. وبدأ يفكر في الزواج، لم يطلب منا إلا مساعدته في توفير الأجهزة الكهربائية وحجرة أنتريه وتوفير دبلتين ومحبس للشبكة.
وقال ”مرزوق”: العروسة طيبة وغلبانة على أد حالها شبهي، ومالهاش طلبات، الغلابة كتير أوي في بلدنا والبنات إللي عايزة تتستر كتير أوي، وإحنا هانشوف شقة في إمبابة إيجار جديد ورزقي ورزقها على الله، بس لو ممكن تساعدونا في أجهزة الشقة ومقدمتها والدبلتين أكون شاكر جداً لأني مش عايز ابتدي حياتي مديون.
أطبق الصمت لساني وأنا استمع إلى حديث الرجل الذي يتكلم عن الاستدانة لأنه يريد دبلتين ومحبس وبعض الأجهزة الكهربائية، بينما يستدين الناس في جمهورية الظلم مئات الملايين لإشباع نهم لا ينتهي.. كل المدن خربة إن لم تحفروا آباراً للمياه الحلوة في طريق المحرومين.
تواصلوا معنا عبر المحمول 01006058093 – 01224003151
تليفون أرضي بجريدة وطني 0223927201
البريد الالكتروني: [email protected]
البريد: مؤسسة وطني للطباعة والنشر – باب افتح قلبك ، 27 ش عبد الخالق ثروت، القاهرة