قد لا يعرف الكثير منا تاريخ الجزيرة التي تنازل عنها الرئيس السوداني لتركيا، إلى أجل غير مسمى لإدارتها وإعادة أعمارها، هذه الجزيرة الضاربة بجذورها عمق التاريخ القديم والحديث، والتي ستكون أرضا تركية خلال الفترات القادمة لسبب لا يعلمه سوى من قاموا بهذا التنازل، طالما كانت محل اهتمام حكام مصر على مر التاريخ، ونستعرض في هذا الموضوع جزيرة “سواكن” وأهميتها.
لا يعرف تاريخ محدد تأسست فيه سواكن، ولكن الكثير من الشواهد تدل على أن الجزيرة كانت مأهولة منذ تاريخ موغل في القدم.
جزيرة سواكن مدينة تقع في شمال شرق السودان، على الساحل الغربي للبحر الأحمر على ارتفاع 66 متر فوق سطح البحر وتبعد عن العاصمة الخرطوم حوالي 642 كيلومتر وعن مدينة بورتسودان 54 كيلومتر.
يشير بعض المؤرخين إلى تزامن اكتشاف سواكن مع النشاط البحري والتجاري الذي مارسه اليونانيون والبطالسة إبّان العهد البطلمي.
كما يعتقد بأن قدماء المصريين منذ عهد الأسرة الخامسة كانوا يمرون عبر سواكن ويستخدمونها كمحطة في طريقهم إلى بلاد بنط (الصومال الحالية) في القرن الإفريقي لجلب الذهب واللبان
ومن المرجح أن سواكن كانت ميناء الرجاء الصالح، ليمين الذي كان يقصده بطليموس، إلا أن ما يعنينا هنا هو السيادة المصرية على هذه الجزيرة بداية من عصر المماليك وحتى منتصف القرن العشرين كما أن منظمة اليونسكو كانت قد قررت وضع سواكن في السجل العالمي للتراث الإنساني.
وقد تداول الإعلام السوداني خلال الأعوام القليلة الماضية حديثا عن مشروع ترميم المدينة التاريخية بتمويل تركي غير أن حال المدينة ظل على ما هو عليه لي أن جاءت زيارة اردوغان إلى السودان، والتي أعلن خلالها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في الخرطوم أن السودان خصص جزيرة سواكن الواقعة في البحر الأحمر شرقي السودان لتركيا كي تتولى إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية لم يحددها.
وعلى الرغم من تناول الصحف المصرية لهذا الموضوع إلا أنه لم يصدر أي تعليق حكومي حتى الأن.
“سواكن في عهد المماليك”
في سنة 1264، تعرضت سواكن لهجوم من قبل المماليك بدعم من حاكم عيذاب عندما أثار أحد حكامها، ويدعى علاء الدين الأسبعاني غضب السلطان المملوكي بيبرس باستيلائه على بضائع تجار لقوا حتفهم في البحر في مكان قريب من المدينة وكانوا رعايا للسلطان بيبرس الذي أرسل حملة تأديبية ضد أمير سواكن علاء الدين بقيادة حاكم قوص المصري تدعمه 50 سفينة من عيذاب، فاضطر الأسبعاني الذي كانت له صلات بأعيان مدينتي جدة ومكة المكرمة إلى الفرار. وقد تحدث عنه إبن بطوطة.
هناك من يعتقد بأن الهجوم الذي شنه الملك النوبي داوود على عيذاب في وقت لاحق بعد بضع سنوات كان رداً على تعاونها مع بيبرس ضد سواكن. وكان العداء والتنافس بين سواكن وعيذاب كبيراً لفترات طويلة.
بعد الدمار الذي تعرضت له عيذاب على يد السلطان المملوكي استقبلت سواكن العيذابيين الذين نزحوا إليها لاستئناف حياتهم في خدمة التجارة والملاحة فوصلت إليها السفن التجارية الكبيرة من الهند و الصين، وأصبحت سواكن ميناء السودان الأول واشتهرت وازدهرت، إلا أن تلك الحال قد تغيّرت بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح حول أفريقيا الجنوبية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادى واتجاه عدد كبير من السفن التجارية الأوروبية نحوه واستخدامه طريقاً رئيسية نحو شبه الجزيرة الهندية والشرق الأقصى حتى غدت منافساً خطيراً لجميع الطرق التي تمر عبرها التجارة بين الشرق والغرب في تلك الأزمنة، ومن ضمنها طريق البحر الأحمر
“الحكم العثماني”
بظهور الأتراك العثمانيين كقوة دولية كبرى وتمكنهم من بسط سيطرتهم على مناطق في آسيا وأفريقيا وأوروبا ومن بينها الشريط الساحلي للبحر الأحمر، غزا السلطان العثماني سليم الأول مدينة سواكن في سنة 1517 م بعد احتلال قصير من قبل الفونج، وأصبحت المدينة مقراً لحاكم مديرية الحبشة العثمانية، والتي شملت مدن حرقيقو ومصوع في إريتريا الحالية.
وفي عهد السلطان سليم العثماني ضمت سواكن لولاية الحجاز العثمانية، فيما استمر تجار سواكن في تعاملهم مع السلطنة الزرقاء حيث كان الفونج يقومون بتجميع السلع والمنتجات من أواسط السودان ويوجهون القوافل التجارية إلى سواكن عبر سنار و كسلا ليتم تسويقها والتبادل عليها هناك مع التجار الأجانب ومن ثم شحنها تحت إشراف العثمانيين، إلا أن المدينة تدهورت تدهوراً كبيراً تحت ظل الحكم العثماني بسبب سياسة التضييق التي مارسها العثمانيون فيما بعد على التجار الأوروبيين للحد من نشاطهم التجاري عبر طريق البحر الأحمر في محاولة لمحاربة الأطماع الأوربية في المنطقة.
وفي سنة 1540، حدث خلاف بين قائد الإسطول البرتغالي استيفانو دا جاما وحاكم سواكن وكانت السفن البرتغالية في طريقها من جيب جوا البرتغالي بالهند إلى خليج السويس بغرض مهاجمته والاستيلاء عليه، وعندما وصلت إلى سواكن أحدثت دمارا على بنايات المدينة ونهبتها الأمر الذي أثار غضب العثمانيين فاصطدموا مع البرتغاليين
وفي عام 1629، أصبحت سواكن قاعدة عسكرية للحملة العثمانية على اليمن
“محمد علي يستولى على سواكن”
عند استيلاء محمد علي باشا على السودان لم تعترف تركيا بسيادته على سواكن، وقد قامت بتأجيرها له مقابل مبلغ يدفعه سنويا لولاية الحجاز وبشرط أن تعود سواكن بعد وفاته لولاية الحجاز، وهكذا كان، فبعد وفاة محمد علي باشا سنة 1849 عادت سواكن للدولة العثمانية وكان مواطن سواكن يعتبر ” سواكني عثماني “، إلا أن باديتها كانت تابعة للسودان.
وفي عهد الخديوي إسماعيل ضمت سواكن للسودان المصري بعد أن تعهد الخديوي إسماعيل بدفع مبلغ 7500 جنيه مصري لوالي جدة مقابل تنازل السلطان العثماني عن سواكن! وقد صدر فرمان عثماني بذلك وتم الأمر سنة 1869
وفي عهد الخديوي إسماعيل باشا ضمت سواكن للسودان الإنجليزي المصري بعد أن تعهد الخديوي إسماعيل بدفع مبلغ 7.500 جنيه مصري لوالي جدة مقابل تنازل السلطان العثماني عن سواكن. وصدر فرمان عثماني بذلك.
وفي مايو / أيار 1865 م تنازلت السلطة العثمانية رسمياً عن سواكن ضمن مناطق أخرى على ساحل البحر الأحمر وخليج عدن مقابل جزية سنوية قدرها 15 ألف جنيه مصري،
حاول المصريون الأتراك تطوير سواكن لتقوم بدورها كمنفذ بحري للسودان، إلا أن سياسة محمد على باشا التجارية إزاء السودان لم تساعد كثيراً على ذلك، فقد عمد توجيه تجارة السودان نحو مصر وأصبحت السلع السودانية المطلوبة من قبل الأسواق الأوروبية تمر عبر طريق مصر وموانئها على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لكن افتتاح قناة السويس للملاحة الدولية في عام 1869 م، من ناحية أخرى، أنعش الطريق البحري المار عبر البحر الأحمر الذي ازدحم بحركة السفن التجارية مما أدى إلى إعادة الحيوية إلى موانئ المنطقة ومن بينها سواكن.
سعى الخديوي إسماعيل باشا إلى تطوير المدينة مرة أخرى فبنى فيها منازل جديدة ومصانع ومساجد ومستشفيات وحتى كنيسة لأقباط المهجر. فعادت إليها السفن الأوربية وجرت عمليات تبادل السلع السودانية المختلفة كالتمور والجلود والقطن والصمغ العربي وسن الفيل وريش النعام وشمع العسل والسمن بمنتجات الشرق والغرب ومن بينها التوابل والزجاج والورق والمنسوجات، وازداد عدد سكان المدينة من البجا والعرب وغيرهم من التجار القادمين من مختلف أنحاء الدولة العثمانية ومصر واليونان واليمن وأرمينيا والهند. وعملت فيها شركات بحرية دولية مثل «شركة الهند الشرقية الإنجليزية»، و«الشركة الخديوية» و«وشركة ملاحة رباتينو» الإيطالية.
كما حاول المصريون والأتراك ربط المدينة ببقية مناطق الإنتاج في السودان بخطوط السكك الحديدية، إلا أن الحرب الإثيوبية المصرية واندلاع الثورة المهدية ضد الحكم البريطاني أدت إلى شلّ حركة العمران في المدينة وإفشال محاولة تطويرها. فقد كانت قوات عثمان دقنه، أحد أمراء المهدية، تهاجم مواقع تشييد الخط من حين لأخر ثم قامت بفرض حصار على المدينة أدى إلى نهاية عهدها المزدهر.
“الحكم الثنائي”
اتخذ اللورد كتشنر من سواكن مقراً لقواته ونجا من الحصار الطويل الذي فرضته جيوش المهدية بقيادة الأمير عثمان دقنة، بعد نجاح حملة استرداد السودان في سنة 1899 م
بدأ البريطانيون في دراسة فكرة تشييد ميناء بحري جديد في السودان بعد أن أشار الحاكم الإنجليزي لشرق السودان إلى عدم ملائمة سواكن لاستقبال السفن الكبيرة واقترح البحث عن موقع أخر على الساحل السوداني يمكن أن تدخل عليه السفن ليلاً على ضوء فنار يقام في موقع قري
تم تكليف أحد الخبراء في عام 1904 م بتقديم تقرير عن المبالغ اللازمة لتطهير ميناء سواكن وإزالة الشعب المرجانية وأشار تقرير الخبير إلى أن المرابط والمياه العميقة حول جزيرة سواكن لا تتحمل إلا عدداً محدوداً من السفن وإن من الأفضل بناء ميناء جديد في شرم الشيخ برغوث الواقع شمال سواكن وتزويده بأجهزة حديثة وإعداده فنياً لاستيعاب حركة الملاحة ومرور التجارة الخارجية.
وهكذا تقرر بناء ميناء جديد جديد للسودان في مرسى الشيخ برغوث أطلق عليه اسم بورتسودان أي ميناء السودان بدلا من الانخراط في إعادة بناء واسعة النطاق في سواكن. وبحلول عام 1922، غادرت آخر شركة بحرية ميناء سواكن إلى الميناء الجديد في بورتسودان
بعد احتلال الإنجليز لمصر استولوا عليها كغيرها من الممتلكات المصرية، ولكن العلم الإنجليزي لم يكن يرفع فيها بل يرفع العلم المصري فقط.
و عند اندلاع الثورة المهدية أقام الإنجليز سورا حول” القيف ” لسد هجمات عثمان دقنة , وكانت للسور خمسة بوابات اشتهرت منها بوابة كتشنر ( باب شرق السودان ) , التي حاولوا حديثا ترميمها فنتج عن ذلك بوابة مختلفة اللون أسمنتية الملامح واختفى اللون الحليبي الناصع الذي تميزت به البوابة القديمة، وبعد القضاء على المهدية أحكم الإنجليز قبضتهم على كل السودان بما فيه سواكن, وبدءوا مخططهم الذي احتلوا من أجله كل الأقطار الأفريقية.
بنيت المدينة القديمة علي جزيرة مرجانية ويحيط بها سور فتحت به خمسة بوابات لمراقبة الداخلين والخارجين اشهرها «بوابة كتشنر» (باب شرق السودان)، ويربط الجزيرة بالساحل جسر وعلي بعد ميلين فاكثر من الجزيرة توجد ثمانية أبراج للمراقبة.
تمتاز مباني سواكن بأنها مبنية من الحجارة المرجانية وبجمال النقوش والتصميم والمظهر العام ولقد زار سواكن كثير من الرحالة عبر تاريخها بدءا بابن بطوطة 1324 م، والكثير من الرحالة الأوربيين مثل صامويل بيكر والدكتور جنكر واسترجو سياد ليمنر، ولقد زارها الكثير من القادة والزعماء عبر تاريخها، فلقد زارها خديوي مصر عباس حلمي الثاني، وزارها اللورد ألنبي والكثير من قادة الغرب،أما عن التعليم الحديث فنذكر طرفا مما ذكره المرحوم محمد صالح ضرار في كتاب تاريخ سواكن.
في سنة 1892 أفتتح المبشرون النمساويون مدرسة قصدها بعض الطلاب، ولكنهم بدءوا في الاختفاء واحدا بعد الآخر عندما شاهدوا الرسومات المسيحية، حتى كانت سنة 1901 فقفلت أبوابها ومبناها يقع في الشمال الغربي بساحل جزيرة سواكن ويسميه الأهالي ” الكنيسة.
مدرسة سواكن الأميرية أنشئت سنة 1895 واشترك تلاميذها في امتحان الابتدائي بالقاهرة وفي سنة 1921 أقفلت المدرسة نهائيا لخلو المدينة من السكان الذين غادروها إلا بقية من سكانها الأصليين المتمسكين بها.