تضمن عدد شهرى يونيو/مايو 2017 من مجلة الثقافة العالمية التى تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت ملفا عن “الأخلاق”، ولفت نظري مقالا بعنوان “التبجُح الأخلاقى: ثمة الكثير منه، وكله سئ”. ووفق المقال، فإن الأبحاث تؤكد “أن كثيرين منا يعتبرون أنفسهم متفوقين أخلاقيا؛ إذ نعتقد أننا أكثر حرصا على العدالة، أو أننا نتعاطف بشكل أعمق مع ضحايا الإعتداءات، أو أننا نتمتع برؤية أخلاقية أعظم من تلك التي يتمتع بها الشخص العادي”. ويأتى التبجُح بسبب أننا “لانكتفي بالنظر إلى أنفسنا بهذه الطريقة، بل نريد أيضا، كما تشير الأبحاث الأخيرة فى علم النفس، أن ينظر الآخرون إلينا بتلك الطريقةـ فليس كافيا أن نعجب بأنفسنا، بل نريد أن يعُجب الآخرون بمناقبنا الأخلاقية كذلك، ولهذا نقوم بالتبجُح”. والملفت فى العنوان هو استخدام كلمة “التبجُح” كترجمة لكلمة Grandstanding، فهى تبدو غريبة فى ارتباطها بالأخلاق، لأنها عادة ما ترتبط بما هو غير أخلاقى كالتطاول والفجور. ولكن على ما يبدو أن المترجم قد اختارها عن قصد عوضا عن استخدام كلمات قد تؤدى نفس الغرض كالتباهى أو التفاخر، وذلك، ربما، لأن كلمة التبجُح تعطي للاستعراض دلالات أكثر سلبية، وهو المقصود من المقال.
والتبجُح الأخلاقي أمر معتاد نعيشه، كما نمارسه، بشكل يومي من خلال التواصل المباشر فى أماكن العمل أو فى البيوت أو المقاهي، وفى أى مكان يسمح بالتواصل اللفظي. ولعل أحد أكثر أشكال “التبجُح” الأخلاقي شيوعا، هو التفاخر بالصدق، فالكثير منا لا يكف عن الإعلان عن نفسه كصادق وصريح (لا يكذب)، لدرجة أن البعض يوهمنا ليس مجرد إنسان صادق، بل يضمر كرها شديدا للكذب والكذابين. وبالطبع ثمة أشكال أخرى عديدة نلاحظها فى حياتنا اليومية مثلا التفاخر بأننا لا نخشى فى الحق لومة لائم، وبالتالي فنحن لا نتملق أو نهادن. وإذا كانت ظاهرة التبجُح شائعة فى الحياة الواقعية، فإنها أكثر شيوعا فى الفضاء الإفتراضي والذى أصبح مساحة مفتوحة ونشطة لاستعراض الأخلاق سواء من خلال التعبير المباشر عن المزايا الأخلاقية للشخص، أو من خلال اتهام الأخرين، ضمنيا، بقلة الأخلاق سواء من خلال تلمحيات مباشرة أوتعبيرات مجردة بالاستعانة باقتباسات وأقوال مأثورة. وربما يبدأ الشخص رحلته اليومية فى الفيسبوك بالإعلان عن أخلاقه.
وعلى ما يبدو أن وتيرة “التبجُح بالأخلاق” تتأثر بالسياق المحيط، ففى أوقات وسياقات معينة ترتفع نبرة التبجُح، ويزداد ماراثون استعراض الأخلاق. ومن الأمثلة على ذلك الأوقات السياسية الساخنة، مثلما حدث أثناء فى غمرة الربيع العربي، ففي هذه الأثناء ظهرت بقوة عمليات استعراض أخلاقيات الشجاعة والشرف، فى مقابل الجبن والخنوع والخيانة، بل إن الكثير لم يكن لهم علاقة مباشرة بالأحداث، ولكن فقط استخدامها كخلفية لمسرحية استعراض الذات كذات آخلاقية.
والخطير فى هذا الاستعراض التفاخري أنه يرتبط فى الغالب بالرغبة فى الإبتزاز أو حتى إهانة آخرين (محددين أو غير محددين)، وكلما اكتظت خشبة المسرح الاجتماعي أو السياسي بالمتبجحين كلما زادت المنافسة وكلما زادت اللعبة حدة وسخونة، وتتحول عملية التفاخر والاستعراض إلى ساحة حرب واستقطاب، من هو الأكثر شجاعة، ومن هو الأكثر شرفا، ومن يتألم من أجل الضحايا أكثر من غيره. إنها حرب قد تستهدف التقليل من شأن آخرين، ولكن ليس من أجل الانتصار عليهم، بقدر ما هى رغبة ذاتية في الانتصار للذات. وهذا ما يصفه المقال بسباق التسلح الأخلاقي والذى يؤدي الاستقطاب وتبني وجهات نظر متطرفة. أما الخطر الثاني فيتمثل فى فقدان الأخلاق لمصداقيتها، “وبعبارة أخرى يؤدي التبجح إلى التقليل من القيمة الاجتماعية للحديث الأخلاقي، وتصبح النظرة السائدة إلى الحديث الأخلاقي على أنه عمل بغيض، وأنه مجرد ساحة اقتتال بين الناس الذين يسعون إلى إثبات أنهم يقفون فى الجانب المشرق من التاريخ”.
والخلاصة أن المجتمعات التي تبالغ فى التباهي والتفاخر بالأخلاق، هى أكثر المجتمعات التى لا تحترم الأخلاق ولا تمارسها. إن المبالغة فى استعراض الأخلاق لا تعنب فقط التبجُح، ولكنها تعني ما هو أكثر من ذلك “الكذب” وعدم الاتساق مع الذات. إنها الصورة التى نريد أن يراها الآخرون على أنها الواقع، فلا تكون سوى صورة مشوهة عن واقع بائس. تماما مثل “المخمور” الذى يقف فى منتصف الخمارة ليهتف بأعلى صوته قائلا: “أنا جدع”.