رحلة باقة الورود البيضاء الى مسجد رابعة -مدينة نصر
المصدر : تسجيل كاسيت للواء جميل عشم اللة ،المرحوم الدكتور فاروق الميرى
+ وإن كانت أجمل باقات الورود التي تنفث عطراً جذاباً تأخذ رحلتها بين الأشواك وتجمع بجراح الحب.. هكذا كانت رحلة باقة الورود البيضاء الجميلة من مطرانية أسيوط إلى بوابة مسجد رابعة العدوية – مدينة نصر.. تلك التي نروي قصتها للتو.. يمثل يوم 18 أغسطس 1993م يوماً حافلاً في تاريخ مطرانية أسيوط، لقد تحدد مسبقاً ميعاد الـ 11 صباحاً لاستقبال نيافة الانبا ميخائيل مطران أسيوط المتنيح لمحافظ أسيوط الجديد اللواء سميح السعيد، إذ جرى التقليد كالمعتاد أن يستقبل نيافته السيد المحافظ والمسئولين بدير العذراء بجبل أسيوط في أغسطس للتهنئة بعيد العذراء كموسم احتفالي مميز لمدينة اسيوط..
يقول (شاهد العيان): كنا متواجدين بصالون استقبال الضيوف بدير العذراء بجبل أسيوط خلال الموسم الاحتفالي بصوم وعيد العذراء على شرف استقبال نيافة الانبا ميخائيل مطران أسيوط للسيد اللواء المحافظ والمسئولين المحليين والتنفيذيين، واجتمعنا نحن من حوله الاباء الكهنة – القس مينا والقس ابانوب والراهب القس بيشوى، إلى جانب الدكتور فاروق الميرى عضو مجلس الشعب وبعض أعضاء المجلس الملي – نذكر منهم المحاسب شكرى عجيب واللواء جميل عشم الله وآخرين.. ونحن نعلم جميعاً ان المواعيد بالنسبة لسيدنا (شىء مقدس) لا جدال حوله. تمام تشير عقارب الساعة إلى ال11 بدأ الاحتداد والتوتر يظهران على سيدنا نيافة الأنبا ميخائيل المطران الجليل، وتسارعت الدقائق فات 10 دقائق ثم 15 ثم.. والوقت يمر وسيدنا ينتظر وينظر إلى عقارب الساعة وهو يقول (أنا ها امشي) مواعيدي كده خلاص) بدأنا من جانبنا نخفف من أجواء التوتر حتى وصل اللواء سميح السعيد ( يرحمه الله ) في موكبه مع المسئولين الساعة 11:45 تقريباً.
وكانت هذه أول زيارة يتعرف فيها على نيافة الأنبا ميخائيل مطران أسيوط وإذ قد اعتاد في بعض ايبارشيات محافظة أسيوط أن يجد الآب الأسقف ينتظر وصوله عند الباب الخارجي للمقر، ففوجئ لأن احنا التقليد بتاعنا في مطرانية أسيوط أن الضيوف عندما تشرفنا نستقبلهم على شرف سيدنا عند الباب الخارجي وندخل برفقتهم حتى منتصف المسافة لصالون الضيافة وسيدنا يكون في انتظارهم للترحيب بهم في نفس المكان ليدخلا معا حتى مواضع الجلوس في واجهة صالون الضيافة الرسمي.. أول ما وصل موكب المحافظ والمسئولين المصاحبين له نزل من سيارته ليتلفت من حوله وقال: فين سيدنا، سيدنا فين!! فاصطحبناه إلى الداخل ومشى إلى الموضع وهو متضجر.
+ الأجواء كانت مشحونه بالداخل، فبعدما تبادلا التحية وجلسا معاً بدأ اللواء سميح السعيد محافظ اسيوط ( رحمه الله ) بالحديث قال: أنا كنت ملحق تجاري في تركيا ورغم أنها بلد علمانية لكن الدين الإسلامي متأصل فيها، وأنا ساكن في القاهرة في منزل أصحابه مسيحيين.. وجرى حديثة في هذه المجالات المعروفة وبادر بالقول أنا عارف إنك متضايق علشان جئت متاخر، أنا ما أتأخرتش عن الموعد، لكن السائق بتاعي اللي اسمه مكاريوس هو السبب.. فرد سيدنا بالقول: أنا لم اسأل عن سبب التأخير، هؤلاء موظفينك وأنت تتفاهم معاهم.. فاستطرد سيادة المحافظ بالقول: السائق ذهب ( لتموين ) السيارة واتاخر وقعد نصف ساعة وعطلنا لحد دلوقتى – وعلق محدثي بقوله: الكلام بالصورة دي ماكانش مريح – فرد سيدنا ثانية بالقول: أنا برضه ما اتكلمتش
احنا عندنا المواعيد مقدسة، اعطيت ميعاداً التزم بيه أو اعتذر عنه والموضوع ما يحتاجش.. وفجأة وجدنا سيادة المحافظ يقول بصوت مرتفع: أنا هنا بأمثل رئيس الجمهورية وحضرت لأسيوط منذ ما يقرب من 6 شهور ولم تأت لتهنئتي.. يضيف شاهد العيان بالقول: فى الحقيقه كان نظام سيدنا أنه لا يزور المسئولين إلا في الأعياد الرسميه فقط.. فبادر نيافته: أنا أوفدت للتهنئه ابونا مينا وابونا ابانوب.. وقام المحافظ من جلسته ليغادر فجاْة وهو يردد: مين مينا؟ ومين ابانوب دول؟! وسيدنا بهدوء يكرر ترديد اسمائهم: ابونا مينا، وابونا ابانوب.. وهرول سياده المحافظ نحو الباب خارجاً، وفى اثره أسرع موكب المسئولين بالمغادرة – الأمن وأمن الدولة والمخابرات والتنفيذين.. خرج المحافظ وأتى بالسائق ممسكا به وهو يقول أهو السائق اسألوه ؟!
+ فيما تبارى الحاضرون من جهتهم بعمل محاولات للتهدئة لكنها باءت بالفشل، فازدادت الاجواء توتراً وتازماً، واخذ الأمر أبعادًا أكبر من حجمها، فيما استقل الجميع سيارتهم وانطلقوا.. وماهي إلا دقائق وخرجت الأخبار من داخل الغرف المغلقه وانطلقت عبر وسائل الإعلام والصحف، ولاقت اصداء واسعه بمدينه اسيوط وخارجها.
+ وعلى الجانب الأخر، لما عدنا إلى حيث يجلس سيدنا في صالة الاستقبال وجدناه لايزال يردد بهدوء احنا لازم نقول اسماء اباءنا هكذا ابونا مينا وابونا ابانوب معندناش مينا وابانوب، وفي حينه وجد الدكتور فاروق الميرى نفسه حائرا ووجهه تساؤلا لمن ظل باقيا بصالة الاستقبال: وبعدين هانعمل ايه؟ قال سيدنا: خلاص وغادر الصالون.
+ وتصادف في اليوم التالي مباشرة فيما كانت جلسه المجلس التنفيذي للمحافظه منعقده في موعدها وحضرها الوزير والمحافظ ورؤساء المصالح ووكلاء الوزراء، قال الوزير للمجتمعين: اللى هايعمل حاجه لميخائيل أنا مش هاقطع رقبته وبس، أنا هامحي اسمه من الدنيا خالص، ها أودية ورا الشمس..
وأبلغ نيافه الانبا ميخائيل مطران اسيوط بما دار في الجلسة، فكان الاقتراح بأن نعتبر الحقبه الخاصة بسياده اللواء المحافظ سميح السعيد – رحمة الله مش موجوده ونطوى الصفحه دي.
وتدخل القدر وحدث ما هو فوق التوقع، وذلك بأنه عقب اغتيال الدكتور نبيل خليل جيد – الذي كان يعمل مدير مستشفى سجن أسيوط صيف عام 1994 وكان يتمتع بطيبة القلب ويساهم في مساعدة المسجونين كما تردد وقتئذ.. كان لزاما حضور الوزير اللواء سميح السعيد محافظ اسيوط ( رحمه الله ) والمسئولين مراسم الجنازة العسكرية للطبيب الشهيد.. حيث رافق المحافظ والمسئولين الجثمان الملفوف بعلم مصر محمولاً على سيارة الشرطة بموكب الموسيقي العسكرية وتشكيل من قوات الشرطة من منزله حتى وصل إلى كنيسة الشهيد مارجرجس بشركة قلته بوسط المدينة.. وجلس المحافظ فور وصوله بالمقعد الأمامي بالصف الأول وأصبح على مقربة أقل من 5 متر يفصله عن كرسي نيافة الأنبا ميخائيل المطران الجليل ثلاثة سلالم رخامية.. وحيث اكتظ صحن الكنيسة والشوارع المحيطة بها بآلاف المشيعين كرد فعل للصدمة القاسية التي تعرض لها شعب الكنيسة لأول حادث من نوعه في المدينة اغتيال لطبيب شاب بمكتبة؟! وكان ضمن المراسم الدينية للجنازة كلمة لنيافة الانبا ميخائل مطران اسيوط، حيث ألقى نيافته العظة وكانت كلماته رائعة ومؤثرة في نفس الوقت وتحمل الرثاء والتعزيه حيث تحدث عن الاستشهاد في المسيحية مؤكداً أن الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال مأجورين ومضحوك عليهم – حسب تعبير نيافته – ونحن نصلي من أجل أن يعودوا إلى صوابهم وضرب مثلا بقتل قايين لاخيه هابيل منذ بدء الخليقه.
+ وفجاء فيما اختتم سيدنا كلمته وقف محافظ اسيوط وأسرع بصعود السلالم وأمسك بيد سيدنا واحتضنه متاثراً وقبله فيما عيناه بدأت تدمعان واستمر المشهد ليس أقل من دقيقتين وسط ذهول الآلاف الذين كانوا يبكون ، ويصيحون أمام التابوت، وساد الصمت لثوان معدودة لأن الجموع كلها كانت عارفه اللى حصل في الدير؟!
واختلف المشهد تماما واعتبر ذلك نقطه تحول في العلاقه مابين نيافه الانبا ميخائيل مطران أسيوط الجليل والوزير اللواء سميح السعيد محافظ اسيوط ( يرحمه الله )
+ ومرت الأيام، فيما وضع المرحوم الدكتور فاروق الميرى على عاتقه بصفته عضو المجلس الملى لمطرانيه اسيوط بالاضافه إلى عضويته بمجلس الشعب ومشاركاً فى ذلك رئيس المجلس المحلى للمحافظه ان يستكمل الخطوه التاليه لإذابة الجليد في العلاقة المتأزمة ما بين الوزير المحافظ ونيافة الانبا ميخائيل المطران الجليل واذ كان يتردد بصفته على مبنى المحافظه ويوالي اللقاء بالوزير اللواء سميح السعيد ( يرحمه الله ) بمكتبه فى بعض المهام حاول أن يجد الفرصة المواتية ليكون – همزة الوصل – بترتيب لقاء ما بين اللواء سميح السعيد ونيافة الانبا ميخائيل، فاستشف أثناء أحد اللقاءات بأن المحافظ لديه نفس الرغبة، وحان الوقت المناسب لمصارحة محافظ اسيوط بامكانية ترتيب ذلك اللقاء الذي أبدى من جهته نفس الرغبة واقرها. وقال : ياليته يكون، نفذ اللقاء فى التو.. فاتصل المرحوم الدكتور فاروق الميرى بالمقر بالكاتدرائية.. فلما ابلغوا سيدنا كان الرد بقوله: بانه غير مستعد ومريض ومرهق من الانفلونزا.. فبادر الوزير المحافظ بعرض أن يذهب للزيارة بنفسه او سأرسل سيارتي الخاصة للمقر ليستقلها نيافته، لكن سيدنا اضطر على مضض ان يغادر مقرة بسيارته وسارت من خلف سيارة المحافظة التي كانت منتظرة خروجه وعبروا الشارع ووصل للتو إلى بوابة مبنى المحافظة حيث كان الوزير المحافظ في الاستقبال برفقة المرحوم الدكتور فاروق الميرى، ولاقى نيافته ترحيباً شديداً عند دخوله المكتب.. واذن الدكتور فاروق لنفسه بأن يخرج ويغلق الباب خلفه ويجلس في مكتب السكرتارية حتى ينتهى اللقاء والذي طال لاكثر من ساعتين.. وتغير الموقف تماماً وتوالت اللقاءات على فترات.. فيما أوصى المحافظ مكتب سكرتاريته الخاص بأنه عندما يعلن نيافة الانبا ميخائيل رغبته فى الحضور سيستقبله فوراً ولا يجلس منتظراً بالخارج البته.. وتوطدت العلاقة بشدة لدرجة أنه عندما كان اللواء المحافظ سميح السعيد ( يرحمه الله ) يسافر للقاهرة لأداء بعض المهام يتصل بسيدنا قبل السفر ويقول له: انا رايح مصر مش عاوز حاجة من هناك؟
+ لنذكر هذه الزيارة الخاصة، من المعروف أن سيدنا كان يذهب إلى محافظ أسيوط فقط للتهنئة بالاعياد الرسمية – كما اسلفنا القول – كان من عادة نيافته أن يدخل مباشرة مكان استقبال الزائرين ويصافح كل المسئولين المتواجدين ويقول كل سنة وانتم طيبين ويغادر فوراً.. في أول زيادة له بعد المصالحة، دخل سيدنا كعادته إلى صالة الاستقبال وصافح المتواجدين من المسئولين والاباء الاساقفه الذين تصادف وجودهم لتهنئة المحافظ والمسؤلين بالعيد فيما كان يرحب بالجميع، وانتهى سيدنا من التهنئة وخرج ولما لم يجد الاسانسير نزل سريعا على السلم.. فجأة وجدنا المحافظ يتوقف لينادي من أعلى: أنبا ميخائيل فين؟ فين الانبا ميخائيل؟ فما كان منه وفى عفوية إلا أن يسرع بالهبوط على السلالم دون استخدام الاسانسير واستدار سيدنا سريعا عندما شعر بوجوده وابتدأ يعتذر ويقول: يا سيادة المحافظ شكرا ما يصحش كدة؟! وكان يريد أن يرافقه حتى باب مدخل مبنى المحافظ الرئيسي لكن سيدنا رفض وبشدة، وترك هذا الموقف بصماته وتأثيره الواضح فى ذاكرة سيدنا حيث كان يروى المشهد – دامعا – بين الحين والآخر..
+ مالبث أن نقل محافظ اسيوط إلى المستشفى الجامعي، اثر وعكة صحية ألمت به وقبل نهاية مدة تكليفه محافظاً لأسيوط، وظل بالمستشفى لعدة أيام وكان فيها نيافة الانبا ميخائيل المطران الجليل يوفد يومياً آباء كهنة وأعضاء المجلس الملي ليطمئن على صحته وبعد أيام قليله نقل محافظ أسيوط بالطائرة إلى مستشفى القوات المسلحة وظل فيها أيام وتوفى.
وكان المرحوم الدكتور فاروق الميرى موجودا بالقاهرة في هذه الفترة وكان يصطحب المحاسب الاستاذ شكرى عجيب بتكليف من سيدنا للسؤال على الوزير المحافظ في مستشفى القوات المسلحة والذي كان يمسك بيديه ويردد : قول لسيدنا ( يدعى لي ) وظل ذلك الأمر مستمرا حتى وافته المنيه.. وكان المرحوم الدكتور فاروق الميرى لا يزل متواجد بالقاهرة وسمع بخبر الوفاة وكانت الصلاة على جثمانه بمسجد رابعة العدوية بمدينة نصر، ولما ذهب لأداء واجب العزاء تصادف وجود بائع للورود بميدان ” رابعة ” فأوصاه ان يرسل باقة ورود بيضاء توضع عند باب ” مسجد رابعة ” حيث سيشيع منه جثمان الراحل الكريم
وللعجب : صنع الرجل باقة ورود جميلة على شكل صليب وكتب عليها نيافة الانبا ميخائيل مطران أسيوط وبالرغم من انه وضعت أمام بوابة المسجد باقات ورود كثيرة من أحباء الراحل تم ترتيبها ووضعها على يسار الداخل للمسجد فيما وضعت باقة الورود البيضاء على شكل الصليب بتوقيع نيافة الانبا ميخائيل مطران اسيوط فى الواجهة – بمفردها – على يمين الداخل الى المسجد.
شهادة نيافة الانبا ميخائيل :
+ شهد ابانا الطوباوى بفمه الطاهر بالقول: الوزير سميح السعيد كان عزيزاً علينا.. باطلب دايما له الرحمة
عندما جاء عابساً للدير بحجة أننا لم نزوره انا طلبت ميعاد للزيارة كان رد موظفى مكتبه ” لما نلاقى ميعاد مناسب نتصل بيكم” ثم التقينا فى مناسبة عزاء واحتضنا بعض وسالت دموعنا عزيزة وكلما تذكرت هذا الموقف ايضا تتقاطر الدموع.. كان رقيق المشاعر وصارت علاقتنا فى طرق مستقيمه، ويذكر له انه عندما تعنت امن الدولة امام الرغبة فى بناء بوابة الدير قال: انتم مجهزين البوابة.. اقترحنا التأجيل للاستعداد فما كان منه بان اصدر امراً شفويا بتركيب بوابة دير العذراء فى اقل من اربعة وعشرين ساعة وكان ذلك فى عهد اللواء عبد الوهاب ابا زيد مدير الامن وقتئذ، ومالبث أن قال الوزير المحافظ: انتم مجهزين البوابة يلا روحوا ركبوها؟! وفيما انتهت رحلة باقة الورود البيضاء الجميلة انطوت صفحة غالية من صفحات التاريخ للسيرة العطرة لحياة الانبا ميخائيل مطران اسيوط الجليل “قديس المغارة”