أرشيف الغلابة بلا ذاكرة، امتلأت جوانبه، كاد ينفجر من فرط المآسي، كل حكاياته ضد التوثيق، فما من أحد يتعلم منها، لذلك تتكرر كل يوم، أحزانه معروضة للبيع ولا أحد يطلب الشراء، الملاك لا يتغيرون، عبثا يحاولون التنازل عن ملكيتهم ولا يتنازل القدر أبداً ، فوق جبين البعض منهم منقوشة لافتة للمعاناة.
كانت أم بشرى ضمنهم..
جاءت أم بشرى تشكو حالها الذي لم يتغير منذ خمسة عشر عاماً حينما وضعت صغيرها بشرى، الذي جاء للحياة معاقاً إعاقة حركية وذهنية كاملة، ضمور في المخ أدى إلى ضمور حياة والديه تماما.. لم يكتشف أبويه حاله إلا حينما وصل عمره إلى خمسة أشهر، طافوا به المستشفيات وعيادات الأطباء، وأجروا له عدة جراحات حينما صار صبياً منها تركيب مفاصل وتطوير أوتار، وانتهي الأمر إلى أن حالته أصبحت ميئوس منها، وفرض العلاج فقط حتى لا تتطور الحالة للأسوأ، لا يجوع لا يعطش، لا يطلب قضاء حاجته، بينما يمارس ذلك فوق السرير أو في البامبرز، أي مأكولات يجب ضربها في الخلاط حتى يتمكن من بلعها.. والدته تقوم علي رعايته، لا تفعل شيئا آخر في الدنيا سوي رعايته.
حينما زرناه لم نجد بني آدم، لكننا وجدنا مجرد عينين تحملقان في الحضور، عينين تطوفان الغرفة يميناً ويساراً، عينين خائفتين أو طالبتين،أو راجيتين، أو يمكن قول عينين مائتين ومازال فيهما نبض الحياة.
تولت الكنيسة رعاية بشرى لسنوات، فكان الخدام يتناوبون على حمله للعلاج الطبيعي للحفاظ على استقرار حالته، وأفضى طموح والديه أن يظل هكذا.. كان الخدام يحملونه ثلاث مرات أسبوعياً في توك توك للعيادة، ثم يعودون به، حتي أصبح الولد جلداً فوق عظام، وأنهك جسده جداً، ويأس من حالته الخدام ويأست الكنيسة، ويأس الجميع إلا والدته، التي ظلت تبحث عمن يساعدها في علاجه، حتي وصلت إلينا..
قالت الأم هادئة قليلة الحيلة: مش عايزة أي حاجة غير البامبرز كل شهر، العبوة بـ190 جنيها للحجم الكبير، وابني بيستهلك 3 عبوات يعني حوالي 600 جنيه في الشهر.. وجوزي بيشتغل عامل في شركة صغيرة مرتبه ألف جنيه، إزاي نقدر نعيش بالمبلغ ده إحنا الأربعة لأن عندي ولد ثاني في الإعدادية، إزاي نقدر نوفي إللي علينا من إيجار وميه ونور ومصايرف كتب وعلاج وكمان بامبرز؟ لما لقيت أن مافيش فايدة جيت هنا خصوصاً إن الكنيسة ماتقدرش تعمل أكثر من إللي عملوه معانا طول الـ15 سنة إللي فاتت.. ده غير إنها بتدينا شنطة بركة كل شهر وفي العيد، وبتساعدنا بـ150ج شهرياً، لكن مافيش حاجة مقضية كله رايح الغلاء أخد في وشه كل شيء، إحنا بيجي علينا وقت مابيكونش في أي أكل في بيتنا حتى اللبن البودرة إللي باستعمله لبشرى مش دايما باقدر أشتريه، لأن مش بياكل زي كل الناس، جسمه تقل وأنا كبرت ماعدش عندي صحة أشيله وأدخله الحمام، كنت زمان باشيله في حضني، لكن جسمه مع الوقت تقل واتحجر، بس الصحة ماعدتش مساعدة، ده ضنايا وابني البكري اللي خطفه العجز وحطه قدام عيني متعذب، وأنا كمان باتعذب معاه، كل ما أبص عليه ألاقيني مقهورة لكن ما باليد حيلة دي إرادة الله.
كرسي متحرك لابن الكهربائي
كان اليوم الذي جاءتنا فيه أم بشرى يوماً عجيباً فبعد أن تعذبت بذكرياتها المؤلمة معنا خرجت، ليدخل علينا رجل في الستين من عمره، ويبدو كما لو كان في الثمانين.. يسعل بشدة، ممسكاً ملف كبير وصورة لولده العاجز، عم ماجد كان اسم الرجل، جاء يسأل عن كرسي متحرك، لا يطلب سوى كرسي متحرك وعبوة بامبرز كل شهر.. ما الحكاية؟
روي لنا الرجل أن ابنه الذي يبلغ من العمر 22 عاماً أصيب بارتفاع مستمر في درجة حرارته أثناء طفولته، مما أدى لإصابته بشلل نصفي وإعاقة ذهنية، بسبب ضمور أصاب المخ وترك أثرًا على الحركة والمخ. سعى الرجل قدر ما سعى لكنه لم يحصل من الدولة سوى على معاش المعاقين وقدره 346 جنيها شهرياً أي ما يوازي أقل من عبوتين بامبرز، كان يعمل كهربائيا لكن حينما تقدم في العمر لم يعد قادرًا على العمل.
واستند على ولده الأصغر الذي يعمل سائق توك توك، وينفق على الوالد العجوز والأخ العاجز، الولد العاجز يزحف على الأرض لأنه لا يجد من يرعاه، أمه صارت عجوزا لا تستطيع خدمته ووالده لم يعد قادرًا على حمله إلى دورة المياه كل مرة.
قال الرجل في خجل: عايز كرسي بيتفتح لما يدخل الحمام، أنا عجزت مش قادر أشيل وأحط، خلاص العمر راح والأمل راح والقوة راحت، بس مش عايز أبهدل ابني أكتر من كده، فقر وعجز وقلة حيلة فاضل إيه تاني علشان نموت، أنا نفسي أموت.. ثم صمت الرجل وعاد للحديث: أموت إزاي هو أنا عايش أصلا ما أنا ميت وعيالي أموات، وحياتي مرار في مرار, بس حرام الولد ده مجرد حتة لحمة مش عايزة يتمرمط أكتر من كده.
أم بشري وعم ماجد نفس المأساة، نفس الحكاية، نفس الاحتياج، ولا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يعلم بهم، ولا أحد يهتم بأولئك الذين قذفتهم الحياة بابتلاء لا يقدر على احتماله سوى قلة من البشر. حينما تقع عيونكم على هذه السطور قد يكون أحدهم فارق الحياة، لأن أمثال هؤلاء يفارقون مبكراً، أو قد يكون على قيد الحياة ومازال منتظرا قطعة بامبرز أو كرسي يمنح والديه بعض الراحلة التي ننعم بها ولا يجدونها