مضى اغسطس.. طُويت أيامه سريعاً.. يا محلاه! الحضور الالهي الذي انجذبت له قلوب المشتاقين.. واهتزت له الأساسات الصخرية وابتهجت به احجار الجبل طوال اغسطس.. يا محلاها! مواكب عذراء مغارة الجبل.. جبل اسيوط الغربى طوال اغسطس.. يا محلاها! أيام صوم تذكار استعلان اصعاد جسد العذراء ممتزجة بصومها التقليدي بطعم البلح والجوافة، الدقة والمانجو وعصير الليمون طوال اغسطس.. يا محلاها ! بواكير فجر البهجة وافراح القداسات اليومية والنذور وخراف الذبائح والتي يقودها الصغار ويجرون خلفها إلى الموضع طوال اغسطس.. يا محلاها! ليالي التسبيح والترتيل وترتيب الموال والمدائح وتدفق اكثر من 2 ونصف مليون زائر صعوداً ثم هبوطاً بجاذبية روحية سرائرية لمدينة الجبل طوال أمسيات اغسطس.. ما احلاها! ما ابهاها! أيقونة العذراء الملكة العبدة والأم واطلالتها الوضاءة السمائية وابتسامتها البراقة الصافية ووليدها الإلهي يسوع على حجرها وهي ترنو لتصعد من خدرها المقدس والذي وُجد هكذا طبيعياً مهيئاً مرصوصاً بقطع الأحجار منذ فجر التاريخ بعيييداً يمين المذبح.. لتصعد أيقونه الملكة الدرج درجة ثم أخرى رويداً رويداً نحو جموع المنتظرين بلهفة عبور محفلها مصطفين بتلقائية في الساحات والصالات والممرات ما بين الكنائس ثم هبوطاً للطريق الجبلي وحتى الدوران.
موكب حفل عرس لأم الفادي، سيدة الكون، يطوف أمامنا يوم العيد.. عشية عيد اصعاد جسدها الطاهر وهي مزينة بالمر واللبان وكل أزرة التاجر تعبر، تطوف، تتهادى لتودع موسمها السنوي ما بين الجموع المحتشدة المتلاصقة تلاحق عينوهم عيونها.. أبانا الاسقف الانبا يؤانس.. اباءنا الكهنة.. خوارس الشمامسة.. ها هم!! ايقونتها ترتفع فى محفلها من بين الرايات البيضاء والأعلام المطبوع عليها صور الملكة المتوجة والصلبان الخشبية تلوح في الأفق عن بعد.. هي تنصت وتصغي من بين تصفيق الجموع، عيناها البريئتان وملامح الطفل يسوع الصغير تجولان ما بين آهات المتالمين ودموعهم، ضحكة طفل، زغرودة امرأة عجوز تطلقها بعفوية أثناء عبور موكب العرس.. لازالت الأم البتول تسترق السمع لأنين القلوب.. حضنها الوسيع بزرقة السماء الصافية باتساع الأفق تجمع إليه كل ابناءها.. ترفع صلواتهم إلى ابنها وعريسها مشفوعة ببخور وعطر حياتها الطوباوية اللامعة.
نلمح – في الأفق – شمس الغروب وهي تلملم ثوبها الذهبي.. من أيقونتها الاحتفالية البديعة تودع الجموع.. إنه يوم العيد، يوم عرسها.. موكبها الاحتفالي يعبر بصعوبة بالغة ما بين ضيوفها وزائريها.. تومئ بابتسامتها الرقيقة وعيناها الشفافتين الصافتين ومشاعرها الهادئة الدافئة.. كطيف سماوي.. مشرقة كالشمس، طاهرة كالقمر، تأخذ مسارها المعتاد نحو باب مغارتها بعد رحلة استغرقت أكثر من نصف ساعة – بقياس الزمن الأرضي المحدود، أما بقياس الزمن اللانهائي فسيكشف هناك في الأبدية.. تنزل الدرج في موكبها دائرياً في اتجاه مخدع يوسف البار على بعد عدة امتار من خدرها المقدس حيث تسكن هنا.. منذ أن وطأت اقدامها مع العائلة المقدسة إلى هذا الموضع.. كما علمنا أبانا نيافه أنبا ميخائيل المطران الجليل المتنيح عندما كنا صغاراً نتساءل ونستفسر.. كان نيافته يجيبنا بقوله: بأن العائلة المقدسة أتت إلى هذا الموضع ولم تغادره.
استقر محفلها ما بين الشموع على اليمين واليسار والصلبان الخشبية والصليبين النحاسيين والرايات البيضاء والأعلام ومجموعة الايقونات القديمه زينة خدرها المقدس لأحداث الميلاد وعذراء الظهور وللرب يسوع..الخ وبعض الرسومات للصلبان على الورق المقوى معلقه على الجدران الحجرية، مرسومة بيد مثلث الرحمات نيافة الأنبا مكاريوس المطران الاسبق المتنيح.. هنا استقر محفلها ما بين أحجار المغارة ليغلق الباب الحديدي ذو الفتحات المتسعه ليسمح بعبور اشعاعات الضوء الأبيض الممتزج بالزرقة.. وكانحصار مياه النيل رويداً رويداً عن مغارات جبل أسيوط الغربي بعد انتهاء أيام الفيضان قديماً نحو الوادي الأخضر أسفل الجبل.. هكذا انسحبت الأضواء الباهرة والشاشات والكاميرات والفلاشات والضجيج عن مدينه الجبل ومغارتها..
مضى اغسطس وانسحبت الجموع المتكتلة وبدأت تنحصر عن الصالات والساحات وأماكن الضيافة.. فقد انتهى موسم اغسطس السنوي وباتت الطيور في اعشاشها وانسحبت الجموع نحو المدينة والقرى والديار، رحلت على رجاء لقاءات قريبة لاحقة، فيما ظلت شموع القناديل القديمة المعلقة بخيوطها المجدولة بضوءها الخافت ترسل خيوطها وسط الظلام الدامس وتحدد بنورها ملامح تراث قبطي أصيل، وتحكي عن مغارة العذراء أكبر مغارات الجبل الغربي والتي تشغل مساحة ألف م2 وقد ارتبطت منذ فجر التاريخ قبل الميلاد بآلاف آلاف السنين بحلقات التدبير الإلهى.. كتب عنها بعض المؤرخين أنها كانت موضعاً حفظ فيها يوسف الصديق لخزين قمح مصر أيام المجاعة ولتوثق في بدايات القرون الميلادية لمجئ العائلة المقدسة والطفل يسوع.. المن السماوى ، قوت الحياة.