كان الشيخ محمد مصطفى المراغى من أعظم الرجال الذين تولوا مشيخة الأزهر علمًا وخلقًا وشجاعة فى إعلان كلمة الحق فقد كان تلميذا للشيخ محمد عبده وإمتدادًا لمدرسته فى التجديد وملاحقة العصر بفكر دينى منفتح.. أتفق عنده جميع الباحثين بأنه كان مصلحًا كبيرًا يحمل مشروعًا رائدًا لتطوير التعليم الدينى، وتحرير العقل المصرى من الجمود، والربط بين الشريعة واحتياجات العصر وهموم الناس.. وهذا التوجه لم يكن مألوفا وقتها إذ كان الفكر الدينى قاصراً على دائرة ضيقة من أفكار الأقدمين.
ولد الشيخ محمد مصطفى المراغى 9مارس سنة 1881م. وينتمي نسبه الشريف إلى الحسين بن علي و فاطمة الزهراء ونشأ الشيخ المراغي في بيئة علمية؛ فلقد كان أبوه ممن يلمون ببعض العلوم الدينية مما جعله موضع احترام أهل المراغة ومرجعهم في المسائل الدينية، فعمل هذا الأب على أن ينشئ أولاده نشأة علمية فتربى خمسة من ابنائه في الأزهر جنح أحدهم إلى دار العلوم، وكان الابن الكبير وهو الشيخ محمد مصطفى المراغى متوقد الذكاء مثابراً على درسه، وظل مثابراً عليها حتى نال شهادة العالمية بتفوق رشحه للتدريس في الأزهر؛ فتخرج الإمام المراغي من الأزهر بعد حصوله على الشهادة العالمية عام 1322هـ/ 1904م، وكان ترتيبه الأول على زملائه، وكان عمره آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، وهي سن مبكرة بالنسبة لعلماء الأزهر في ذلك الوقت ثم عمل بعد ذلك قاضياً في مديرية دنقلة بالسود بمسعى أستاذه المرحوم الشيخ (محمد عبده) واستمر الشيخ المراغي في وظيفته تلك لمدة ثلاث سنوات فقط حتى عام 1907، حيث قدم استقالته من عمله بسبب خلافه المستمر مع الحاكم العسكري الإنكليزي للسودان، وعاد لمصر يتدرج في مناصب القضاء حتى تولي رئاسة المحكمة الشرعية العليا عام 1923م وعرف عن الشيخ المراغي الميل للاعتدال والنفور من العنف، والاستقلال في اتخاذ القرار
وفي عام 1928 تم تعيينه شيخًا للأزهر وهو في السابعة والأربعين من عمره، وكان معنيّا بإصلاح الأزهر، ولكنه لما وجد أن هناك عقبات كثيرة تحول ببينه وبين ذلك استقال من منصبه في أكتوبر 1929م ولمَّا استقال الإمام المراغي لم يخلد إلى الراحة والسكون كما كان يعتقد البعض، بل قضى أكثر من خمس سنوات عاكفًا في بيته على البحث والدراسة ومراجعة آراء المصلحين من قبلُ، وبخاصَّة آراء أستاذه الإمام “محمد عبده”، كما راجع الأسس التي وضعها للإصلاح وما تَمَّ تحقيقُه منها، وما ينبغي تعديله، وذلك في ضوء دراساته العميقة للنهوض بالأزهر.
وفي أبريل 1935 أعيد تعيين الشيخ المراغي شيخا للأزهر مرة أخري بعد المظاهرات الكبيرة التي قام بها طلاب الأزهر وعلماؤه للمطالبة بعودة الإمام المراغي للأزهر لتحقيق ما نادى به من إصلاح.
وظل الشيخ المراغي في منصبه شيخا للأزهر لمدة عشر سنوات إلى أن توفي في 22 أغسطس 1945.
ثم رئيساً للتفتيش بالمحاكم الشرعية فرئيساً لمحكمة مصر الكلية، ثم عضوا في المحكمة العليا الشرعية، فرئيساً لها سنة 1923 ثم شيخاً للأزهر.
تأثر المراغي بالشيخ محمد عبده وتتلمذ على محاضرات الأستاذ الإمام في تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه تنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى، وكذلك الحال في البلاغة واللغة العربية التى عرفت نقلة في أسلوب تقديمها في وقته وقد صار بعد ذلك أحد أهم أعلام مصر والعالم الإسلامي وأحد أهم من شكلوا قوانينها ومسارها التشريعى والفقهى والوطني وقد ساهم بمجهودات كبيرة ليتبوأ الأزهر مكانته رغم قلة كتبه.
كان إصلاح القضاء هو الاهتمام الشاغل للإمام المراغي لتحقيق العدل والإصلاح بين الناس، وكان الشيخ يتبع أسلوبا جديدًا مع المتقاضين، حيث كان يحاول أن يوفق بينهما دون اللجوء للتقاضي، وكان يرى أن القاضي يستمد أحكامه وقدراته من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ولا سلطان لأحد عليه سوى الله ثم ضميره حتى يستطيع أن يؤدي رسالته في العدالة بين الناس دون الخوف من أحد، حتى ولو كان الحاكم أو السلطان. وكان الإمام المراغي يرى أن إصلاح القانون هو إصلاح لنصف القضاء؛ لذلك شكل لجنة برئاسته تكون مهمتها إعداد قانون يكون هو الركيزة الأساسية للأحوال الشخصية في مصر.
وقد وجه الإمام المراغي أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد القانون بعدم التقيد بمذهب معين، حيث كان القضاة لايحيدون عن مذهب الإمام أبي حنيفة ، الذي كان معمولاً به في ذلك الوقت ، إلى غيره من المذاهب، ولكن الإمام المراغي كان يرى بضرورة الأخذ بغيره من المذاهب إذا كان فيها ما يتفق مع المصلحة العامة للمجتمع، وكان مما قاله لأعضاء اللجنة: “ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، فالشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت”.
كما كان إصلاح الأزهر على رأس أولويات الشيخ المراغي؛ لذلك شكل فور توليه مشيخة الأزهر لجانًا لإعادة النظر في قوانين الأزهر، ومناهج الدراسة فيه. كما قدم قانونا لإصلاح وضع الأزهر للملك فؤاد الذي كان مشرفا على شئون الأزهر آنذاك، إلا أن بعض حاشية الملك فؤاد أوعزوا له بأن الشيخ المراغي يريد استقلال الأزهر عن القصر، فرفض الملك فؤاد القانون، وأعاده إلى الشيخ المراغي.
فما كان من الشيخ المراغي إلا أن وضع القانون الخاص بإصلاح الأزهر في ظرف، واستقالته من مشيخة الأزهر في ظرف آخر، وطلب من الملك فؤاد حرية الاختيار، فقبل الملك فؤاد الاستقالة، ولكن الإضرابات عن الدراسة التي قام بها علماء وطلاب الأزهر، والتي استمرت أكثر من 14 شهرًا أجبرت الملك فؤاد على إعادة المراغي شيخًا للأزهر مرة أخرى.
وقام الشيخ المراغي بإنشاء ثلاث كليات تكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات تتخصص إحداها في علوم العربية، وهي كلية اللغة العربية، والثانية في علوم الشريعة وهي كلية الشريعة والقانون، والثالثة في علوم أصول الدين وهي كلية أصول الدين.
وقد دعا الإمام المراغي إلى ضرورة العمل على تحرير مناهج الأزهر من التقليد والتلقين في التدريس، والأخذ بالأساليب الحديثة، والتوسع في الاجتهاد. ودعا الطلاب إلى دراسة اللغات الأجنبية ليكونوا أكثر قدرة على الفهم
وقد شكل الإمام المراغي لجنة للفتوى داخل الجامع الأزهر تتكون من كبار العلماء تكون مهمتها الرد على الأسئلة الدينية التي تتلقاها من الأفراد والهيئات، كما شكل أكبر هيئة دينية في العالم الإسلامي، وهي جماعة كبار العلماء، والتي تتكون من ثلاثين عضوًا، واشترط الإمام المراغي في عضويتها أن يكون العضو من العلماء الذين لهم إسهام في الثقافة الدينية، وأن يقدم رسالة علمية تتسم بالجرأة والابتكار.
وقد دعا الإمام المراغي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والتقريب بين طوائف المسلمين، وبذل في سبيل ذلك بعض المحاولات منها: إجراء محادثات مع أغاخان!!! بهدف تكوين هيئة للبحث الديني تكون مهمتها توثيق الروابط بين المسلمين في جميع أنحاء العالم، وإقامة نوع من التعاون بين الهيئات التعليمية في البلدان الإسلامية،
ومن مواقف الشيخ المراغي المشرفة موقفه من الحرب العالمية الثانية، حيث رفض الإمام المراغي فكرة اشتراك مصر في هذه الحرب سواء بالتحالف أو التعاون مع الإنجليز، أو التعاون مع الألمان للتخلص من الاحتلال البريطاني، كما أعلن الإمام المراغي موقفه صراحة بقوله: “إن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب، وإن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأي صلة…”.
وقد أحدثت كلمة الإمام المراغي ضجة كبيرة هزت الحكومة المصرية، وأقلقت الحكومة الإنجليزية، والتي طلبت من الحكومة المصرية إصدار بيان حول موقف الإمام المراغي باعتباره شيخ الأزهر من هذه الحرب ومن الحكومة الإنجليزية.
فما كان من رئيس الوزراء المصري في ذلك الوقت حسين سري باشا إلا أن قام بالاتصال بالشيخ المراغي، وخاطبه بلهجة حادة طالبا منه أن يحيطه علما بأي شيئا يريد أن يقوله فيما بعد حتى لا يتسبب في إحراج الحكومة المصرية.
وبعد فترة هدأت العاصفة لأن الإنجليز أرادوا أن يتفادوا الصراع مع الشيخ المراغي حتى لا يثير الرأي العام في مصر ضد القوات البريطانية المحتلة في مصر.
وقد تزعم الإمام المراغي حملة لجمع تبرعات في مصر لصالح المجاهدين في السودان الذين يقاومون الاحتلال البريطاني، وبلغت حصيلة التبرعات ستة آلاف جنيه مصري آنذاك تقدر اليوم بحوالي ستة ملايين جنيه مصري.
ومن المواقف التاريخية المشرفة للإمام المراغي رفضه الاستجابة لطلب الملك فاروق ملك مصر، والخاص بإصدار فتوى تحرم زواج الأميرة فريدة طليقته من أي شخص آخر بعد طلاقها، فرفض الشيخ المراغي الاستجابة لطلب الملك فاروق، فأرسل الملك فاروق بعض حاشيته لكي يلحوا عليه لإصدار هذه الفتوى، فرفض الشيخ المراغي، ولما اشتد عليه المرض دخل مستشفي المواساة بالإسكندرية، وهناك زاره الملك فاروق للاطمئنان عليه من ناحية، وللإلحاح عليه مرة أخري لإصدار الفتوى الخاصة بتحريم زواج الملكة فريدة، فصاح الإمام المراغي برغم ما كان يعانيه من شدة الألم بسبب المرض قائلا : “أما الطلاق فلا أرضاه، وأما التحريم بالزواج فلا أملكه، إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله”.
ولم يكن المرض يمنع الإمام المراغي من أداء واجبه. ففي إحدى السنوات اشتد عليه المرض، وكانت فترة الامتحانات بالأزهر بدأت، فأصر الإمام المراغي على الذهاب يوميا لمكتبه في الأزهر، حيث كانت تطبع أوراق الامتحانات، وبرر ذلك بقوله: “إنني أتقبل تعرض صحتي للخطر وهو أمر أهون على من أن تتعرض سمعة الأزهر للخطر”.
أثرى الشيخ المراغي المكتبة المصرية بالكثير من المؤلفات والتراجم، والتي اشتملت على برامجه الإصلاحية، وخاصة إصلاح الأزهر وقوانين الأسرة، بالإضافة لمؤلفاته ودروسه ومن أهم هذه المؤلفات.
الأولياء والمحجورون: وهو بحث فقهي لا يزال مخطوطا بمكتبة الأزهر، تناول فيه الشيخ المراغي الحجر على السفهاء، وقد نال الشيخ المراغي بهذا البحث عضوية هيئة كبار العلماء.