لم نجد فى هذا العام اوقع من عرض الخبرات الحية لأمهات الشهداء و خاصة “شهداء البطرسية ” من واقع ما قصصنه عن أبنائهن و أساليب التربية التي اتبعنها فى تعاملاتهن داخل الأسرة لتكون دليلا عمليا لكل أم, و على الرغم من أن الظروف التي روين فيها ذلك كانت ظروفا صعبة و مريرة و لم تكن في سياق إرشاد و لا نصائح تربوية, إلا أن حوارتهن الصادقة مست صميم و أعماق كل أم لتراجع دورها كأم قياسا بهؤلاء الأمهات اللواتي يعد لقب مثاليات أقل ما يستحققنه.
فرحة أمهات شهداء البطرسية, جاءت دليل صارخ عن مدى الإيمان الشديد بالله و العشرة الحلوة معه لما لمسنه و ذاقنه من اختبارات مفرحة معه و هو ما تعايشوا به مع اسرهم لينقلوا تلك العشرة من خلال ممارسات حية .. معاشة .. مفرحة .. معزية, إيمانا منهم بأن “في نهاية كل ألم, فرح” و “آخر كل ضيقة, تعزية”, و هذا هو سر السلام و التعزية الذي جعلهم يتحدثون بقوة و إيمان أمام العالم بأكمله عبر شاشات التليفزيون و الأحداث الصحفية رغم الألم بداخلهم و رغم المشاعر الإنسانية التي ربما تتغلب عليهم في بعض الأحيان لتنهمر الدموع من عيونهم حزنا على فراق بناتهم ليشهد كم كانت لكل منهن دور مؤثر في حياة أسرهن و بناتهن في تكوين العلاقة القوية بالكنيسة و الاهتمام بالحياة الروحية بشكل عام و لعله اتضح في شكل زفة الأسر لبناتها في صلاة الجناز من بوسترات مزينة بالورود بجانب ابتسامتهن المفرحة للقلوب المعبرة عن مدى السلام الداخلى اللاتي يتمتعن به ليصبح و كأنه عرس حقيقي لتلقي التهنئة و ليس العزاء و ربما وصل الأمر في إطلاق “الزغاريد” على أرواح الشهداء.
كما حدث مع أسرة الشهيدة “إنصاف عادل” التي تدربت على سماع صوت الله من خلال كلمة في عظة أو آية في الكتاب المقدس و التعامل معها بصفة شخصية و كأن هناك رسالة موجهة لها و يظهر إيمان أسرتها و كيف كان إعدادها و اختيارها من قبل الله من خلال الحديث بفخر عن وصولها للسماء بقولهم بكل حب و شكر “ما تغلاش عليك يارب” في تسليم كامل لإرادة الله.
و من ثم الحديث عنها كعروسة للمسيح و كيف كانت مستعدة لحضور القداس الإلهي يوم الحادث و أنها ذهبت لكنيسة السيدة العذراء بالشرقية و لكنها وصلت في انتهاء القداس وقت التناول فأصرت حضور القداس من بدايته، و من ثم اتجهت مع خطيبها لكنيسة البطرسية, و لعل ما لاحظناه وفقا لما روته كل أم شهيدة بأن هناك عامل مشترك يجمعهم، و هي الغيرة المقدسة و السعي وراء خلاص نفوس أبنائهم و إضاءة مصابيحهن و هو ما ظهر تحديدا في نفس يوم الحادث الأليم و هو الاهتمام بحضور القداس و من ثم الاستيقاظ مبكرا, منهن من اصطحبن أبنائهن للذهاب معا للكنيسة و منهن من قامت لاستيقاظهن مبكرا و هذا و إن دل فهو يدل على الحرص الشديد على الاهتمام بإعداد بناتهن روحيا من خلال الاتحاد بالمسيح حيث التناول من الأسرار المقدسة, و هي رسالة صريحة لكل أم و لكل أسرة بالحرص على الذهاب معا للكنيسة لحضور القداس أسبوعيا و عدم التكاسل و أن نربي أبنائنا أن نكون مستعدين لأننا لا نعرف الوقت و لا الساعة .. و لعلنا ندرك قيمة الأم هنا و مدى وعيها برسالتها و دورها داخل الأسرة وسط الظروف التي تمر بها البلاد لتجعل كل منهن تهتم بأمور مختلفة عما كانت عليه خلال فترات سابقة و تتعامل مع أبنائها بطريقة مختلفة لإدراكها معنى الحياة الحقيقي – و كيف يمكن أن تعاش – بأن ما نعيشه على الأرض بمثابة فترة غربة مهما طالت أو قصرت الأيام و أن ما نعيشه هي بحق فترة مؤقتة مقارنة بالحياة الأبدية و الفرح السمائي الذي ينتظر كل منا حينما نقضي فترة غربتنا بسلام و الدليل ما ذكرته الدكتورة نرمين سمير ” والدة الشهيدة ” ماجي مؤمن” بقولها “إحنا بنربي علشان نوصل بناتنا للسماء”.
و من هنا كان التعامل مع الأبناء بشكل مختلف لتتوارى بعض الأفكار المغلوطة في عملية التنشئة الاجتماعية رغم اختلاف الطبقات والفوارق الاجتماعية و الظروف المحيطة لكل منهم إلا أن تلك العوامل لم تؤثر على هدفهم الواضح و الصريح في تربية أبنائهم و هي بحق رسالة واضحة لنا بأن نضع لأنفسنا هدف واضح و رؤية سليمة في تعاملنا مع أبناءنا و نتعاهد ألا ننحرف عنه وسط مشاغل الحياة و دائما ما اسأل نفسى ما الذي اتمناه لأبنائي؟ و الواقع العملي أثبت أنه لم يعد الاهتمام بتربية الأبناء ينصب على الأمور المادية و توفير الاحتياجات الأولية من ( أكل, شرب, ملابس) و الدراسة و إشكالية الدروس الخصوصية و الاهتمام بالمجموع في الثانوية العامة و هوس دخول كليات القمة كما يحدث داخل أسرنا و التوبيخ المستمر للأبناء و الخوف على المستقبل و غيرها من الأساليب غير الصحيحة المتبعة في تعاملنا مع أبناءنا دون الاهتمام بالأمور الروحية و النفسية و التواصل مع الأبناء التي هم بحاجة اليها و التي ربما يصل في غالبية الأحيان التغافل عنه و تجاهله رغم أهميته, فما لمسناه و سمعناه على لسان الأسر يعكس ذلك الفكر كلية ليؤكد أن الأجدى هو الاهتمام بالعلاقة الشخصية للأبناء مع الله و الاهتمام بالعلاقة الروحية معه و التدرج في تكوين تلك العلاقة مع الله بصورة بسيطة و بكل محبة دون التوجيه و إصدار الأوامر كما يحدث ” قومي صلي” أو ” هننزل بكرة القداس علشان نتناول ” أو ” ليه ما قرأناش في الكتاب المقدس ” و غيرها لأن في هذا الأسلوب يؤدي لنتيجة عكسية و هو ما لا نقبله و هو ما أكدته السيدة نهلة والدة الشهيدتين ” مارينا فهيم و فبرونيا فهيم ” بضرورة معرفة الاحتياجات النفسية للأبناء و احتوائها دون الاستهانة بها أو السخرية منها لاسيما في مرحلة الشباب.
الاحتياج النفسي للأبناء
تعطي والدة الشهيدتين “مارينا و فبرونيا” رسالة قوية لأهمية التواصل المباشر بين أفراد الأسرة و الحوار معهم و المناقشة معهم في كل أمور و تفاصيل حياتهم من فرحهم و حزنهم و إرشادهم بطريقة سليمة تناسب سنهم و مرحلتهم العمرية دون الاقحام أو إحساسهم بانتهاك خصوصيتهم و إنما بمحبة لاسيما أن ما نقع فيه هو عدم الوضع في الاعتبار طبيعة سنهم و ما يمرون به من تغييرات سيولوجية و نفسية و من ثم على كل أم ان تبدأ مع أبناءها منذ الصغر حتى لا تخسر صداقتهم لنصل لحالة تكوين صداقات بين الأمهات و أبنائهن كما كانت علاقتها ببناتها التي وصلت لدرجة الصداقة معهم فكانت روح واحدة بثلاث أجساد صديقة لهن في كل أمور حياتهن من أسرار و شراء ملابس و متابعة دروس و خدمة.. فكونوا أصدقاء لأبنائكم و لا تخسروهم حتى لا تقعوا مثلما يقع بعض الأمهات في خطأ خسارة أبنائهن و فقدانهن و عدم الحديث معهن ربما بحجة ضيق الوقت أو التسرع فى الحكم عليهم أو توبيخهم فيما يتحدثون عنه و إنما محاولة إشراكهم و لو فى قرارات بسيطة للمنزل باعتبارهم افراد و شركاء لاكسابهم و إكساب ثقتهم, فبالتأكيد سيصبح لهم دور مؤثر في الأمور المنزلية بما يساهم في تكوين شخصيتهم و تأهيلهم نفسيا بما يجعلهم يتحملون أي ظروف صعبة يمكن أن تواجهم فيما بعد لاسيما و أننا نمر بظروف صعبة على كافة المستويات الاقتصادية منها و السياسية و غيرها .
لم تنتزعهم المشغوليات
جاءت كلمة الدكتورة نرمين سمير والدة الشهيدة ” ماجي مؤمن ” لتؤكد على رسالة كل أب بان يصبح دوره مؤثرا داخل أسرته بتواصله مع أبنائه و عدم التبرير بالمشغوليات و ضيق الوقت و إلقاء الحمل على زوجته في تربية الأبناء بمفردها دون الشركة معها باعتباره مسئول معها و وكيل ايضا على تلك المسئولية, و ذلك من خلال الحديث عن دور زوجها الدكتور “مؤمن” مع أسرته كل يوم احد ( يوم أجازته ) واصفة إياه بانه يوم صخب جدا لأسرته و لأولاده و أنه يوم مميز لتعويضهم الأسبوع بأكمله و أن ابنتيه ” الشهيدة ماجي ” و ميرا , ينتظران ذلك اليوم من كل الأسبوع لحنيته عليهم و ما يفعله من أجلهم لسعادتهم و هو ما يفترض فى كل أب ان يعطي من مشاعره أكثر عنه من ماله, فالاحتياج النفسى أولى و أجدى و افضل من الاحتياج المادي, فلا شك أن ظروف العمل و ضغوط الحياة يمكن أن تبعدنا عنهم عدد ساعات كبيرة خلال اليوم و لكن الساعة أو الساعتين اللي في نهاية اليوم ممكن تكون مؤثرة معهم فلا يصح أن يكون ضريبة العمل يدفعها أبنائنا أو أن تكون على حساب مصلحتهم.. مسئولة أبنائنا في أيدينا, فالتربية على تحمل المسئولية أولوية في ظل الظروف العصيبة التي نعايشها .
المحبة الأخوية
جاءت رسالة أسرة الشهيدتين ” مارينا و فبرونيا ” باندماج الأسرة معا , كرد قوي على وضع الأسر المفككة أو تشاجر أو تنازع أبناء فيما بينهم و من ثم إلقاء المسئولية على الأسر بضرورة اهتمامهم بمحبة بعضهم البعض و أن يمسكوا بأيادي بعضهم فيى حياتهم الروحية.
الشكر رغم الضيقة
كثرا ما نتذمر على أوضاع المعيشة و الحياة الصعبة و غلاء الأسعار, و ننسى تربية أولادنا على تحمل الصعاب في حياتنا و شكر الله الدائم في كل الأحوال و نتعجب حينما نرى ذلك السلام الداخلي و الشكر الدائم بفرح و كأنه شيء إعجازي.. و هنا أعطتنا والدة ” الشهيدة دميانة أمير ” مثال حي لحياة الشكر الدائم بلا انقطاع رغم الألم بكونها ثمرة العلاقة و العشرة الحلوة مع الله, فوسط حزنها و ألمها و إحساسها بكم تتألم ابنتها “دميانة” إلا أنها كانت تسعى دائما لخلاص نفسها و تطلب منها قائلة “إذا حسيت بألم بدل ما تقول آي قولي أشكرك يارب” و هذا الإيمان يعطينا رسالة كأسر بأن علينا مهمة و مسئولية تجاه أبنائنا و تنشئتهم بأنه مهما مرت علينا من تجارب أو ضيقات أو آلالام لا نكف عن الشكر, فكم يصنع معنا الله و ننسى شكره كما لو علمنا كم حجب عنا الله تجارب و ضيقات ربما ما كان عمرنا كله يكفي للشكر و بالتالي آن الأوان كي نتعامل بإيجابية مع أبنائنا كي نخلق منهم أبناء صالحين لجعلهم شخصيات لديهم من القناعة و الشكر ما تكفي لإدراكهم بأن ما يمرون به “كله للخير” و أن كل ضيقة مسيرها تنتهي و أن ” بعد الضلمة, أكيد في نور” , كما أن هناك رسالة قوية أيضا لكل أسرة بألا تقارن أبنائها بأقارانهم من نفس أعمارهم سواء كانوا أصدقاء أو أقارب لاسيما و أن الظروف مختلفة و الإمكانيات و المهارات متباينة حتى لا يقع فريسة للمقارنة بينه و بين غيره لنصل لمرحلة تذمر بقوله ” اشمعنى ” أو ” ليه أنا ” و ربما ذلك ما حرصت عليه أيضا والدة الشهيدة ” دميانة ” أثناء وجودها معها في المستشفى بأن ما حدث لها كان اختيار الله لها بالتحديد و الدليل أنها كانت بجانبها و لم يحدث لها شيء.
التسليم الكامل
كثيرا ما تواجهنا مشكلات في الحياة و نعتمد فيها على الحلول البشرية أو نعتمد فيها على أشخاص و ننسى دور الله أو نتناسى دوره معنا, و هذه حقيقة غائبة نغفلها في تعاملتنا مع أبناءنا أو نتغافل عن تربية أبنائنا على حياة التسليم لله, و لعلنا شاهدنا موقف والدة الشهيدة “ماجي” وسط ألمها كانت دائما تقف تصلي من اجل خلاصها و تقول “لتكن مشيئتك” و تقول “يارب ماتسمحش أن يكون خلاصها على حساب خلاصي.. يارب اينى التعزية” , موضحة كيف كانت تتابع أخبار ” ليديا أكرم ” التي انتقلت للسماء منذ عام باهتمام رغم عدم معرفة أسرتها و كأنها كانت مرحلة إعداد لها .
ثقافة التسامح
وسط الحادث الأليم و الحزن على فراق بناتها بالجسد نجد والدة الشهيدتين ” مارينا و فبرونيا ” في سردها للحدث و كيف كان الحال حينما وصلت للكنيسة فور الانفجار و كم كان مشهد الدم على الأرض و ” الدسكات” متكسرة, واصفة إياه بأنه شيء محزن .. نجدها تقول في تسليم لإرادة الله “ربنا يسامحه” أيضا نجد الأب والد الشهيدتين “الأستاذ فهيم ” يقدم شكر للإرهابي الذي قام بتفجير نفسه بقوله “أشكرك أنك وصلت بناتي للسماء و أنك خليتهم قريبين قوي من ربنا ” كان حلم عمري أن بناتي يكونوا أحسن حاجة في الدنيا و أني اطمئن عليهم في حضن المسيح و أوصلهم للمسيح, و وصلوا فعلا.
يا لهذا التسامح العجيب, كم يتعجب البعض كيف يمكن لأب و أم يفقدان ابنتهما و يشكر من ارتكب هذا ؟ بالطبع أنها محبة عجيبة و تسامح بلا حدود لا يعرف الكراهية .. و من هنا على الأسر الاستفادة من ذلك المشهد الحي و تنشئة أبنائها اجتماعيا على ثقافة التسامح و المحبة و قبول الآخر المختلف عنى سواء من حيث العقيدة أو الجنس أو اللون و التعامل معه من منطلق كونه إنسان و لا نتحدث مع أبناءنا من مخزوننا الشخصي لنشر سموم و أفكار مغلوطة عن الآخر من شأنها تعمل على تدمير أبنائنا بأيدينا إنقاذا للوطن حتى لا يصبحوا السيف الذي يطعن به .
و اليوم في عيد الأم, شكرخاص احتراما و تقديرا لكل أم من شهداء البطرسية.. لكل من تعبت و سهرت و جاهدت بحق في تربية بناتها التربية السليمة بما يتوج أكاليل فرح و فخر على رؤوسهم لما نالوه من أمجاد و أفراح، حيث وصولهم للمكان الذي هرب منه الحزن و الكآبة و التنهد.