قراءة فى ملف «الأمور المسكوت عنها» (٣٢٦)
مرة أخرى أجدنى مدفوعاً لتحذير الكثيرين من الوقوع ضحايا بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى -وعلى رأسها الفيس بوك- لأن ما دأب عليه الكافة فى أيامنا هذه العزوف عن قراءة الصحف والاندفاع وراء عناوين الإثارة دون التعمق فى التفاصيل أو تدقيق المعلومات، هذا علاوة على الخطيئة الكبرى فى ترديد ونشر تعليقات وتعقيبات انفعالية لا أساس لها من الصحة سوى أنها وجدت طريقها إلى صفحة من صفحات التواصل الاجتماعى!!!
وإذا كنت ألتمس بعض العذر للبسطاء الذين لا قبل لهم من تدقيق ما يتلقونه من معلومات، لا أجد عذراً للعاملين فى الحقل الإعلامى أو المتنورين الذين يحملون أمانة ومسئولية التثبت مما يروجون.. وللأسف يبدو أن سمة هذا العصر لم تعد »المصداقية عنوان الحقيقة« بل تبدلت إلى »الإثارة والغرابة عنوان الحقيقة«!!
انفجرت براكين الغضب والاحتجاج والسخط لدى صدور قرار محكمة جنايات القاهرة بإخلاء سبيل الضابط المتهم بتعذيب وقتل بائع السمك »مجدى مكين«، وكلنا نذكر هذه الجريمة التى هزت الرأى العام منذ بضعة أشهر عندما اصطدمت عربة بائع السمك المتجول بسيارة ضابط الشرطة معاون مباحث قسم الأميرية »كريم مجدى«، فما كان من الضابط إلا أن انهال على البائع سباباً وضرباً واقتاده إلى قسم الشرطة حيث اشترك هو وثلاثة من أمناء الشرطة فى ضربه بوحشية وتعذيبه حتى فارق الحياة.. وتم القبض على الضابط والأمناء وتقديمهم للنيابة التى باشرت التحقيقات واستعانت بتقرير الطب الشرعى الذى أثبت واقعة التعذيب وكذلك كاميرات قسم شرطة الأميرية وشهادات الشهود، وانتهت بتوجيه الاتهام لهم بجريمة ضرب أفضى إلى الموت، وأمرت بحبسهم على ذمة القضية ٥٤ يوماً.
قام المتهمون بالتقدم باستئناف أمام المحكمة اعتراضاً على أمر حبسهم على ذمة القضية، وبعد نظر الاستئناف قررت المحكمة إخلاء سبيلهم بكفالة قدرها خمسة آلاف جنيه للضابط وثلاثة آلاف جنيه لكل من الأمناء الثلاثة.. وذلك لا يعنى تبرئتهم من التهم الموجهة إليهم وإنما هو إخلاء سبيل من الحبس الاحتياطى ويستمر مسار القضية بموجب التهم الموجهة إليهم من النيابة لتحكم فيها المحكمة سواء بالإدانة أو بالبراءة.
لم تبرز صحف الإثارة هذه التفاصيل فى عناوينها، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعى، فكانت العناوين الملفتة التى تصدرتها فى هذه القضية: »إخلاء سبيل الضابط المتهم بتعذيب وقتل بائع السمك فى الأميرية«… لم يتمهل متلقى هذه العناوين حتى يلموا بتفاصيل الخبر أو يتثبتوا منه وطار العنوان المثير بسرعة امتداد النار فى الهشيم ليحتل موقعاً متصدراً مواقع التواصل الاجتماعى… وانفجرت التعليقات والاحتجاجات دون أدنى تروٍ من عينة »طبعاً.. مش الضحية قبطى؟.. يبقى ملوش تمن«!!… »ما هو لازم التستر على جريمة ضابط الشرطة«!!.. »ضابط الشرطة عذب البياع الغلبان ولما مات اتهمه بأنه بيتاجر فى المخدرات«!!… وانطلقت ردود الأفعال الغاضبة على تلك التعليقات حتى تاهت الحقيقة تماماً ولم يكترث أحد بتقصيها، بل تمادى البعض فى نسج شائعات وترويج قصص أبدعتها التعليقات وهى عارية تماماً من الصحة!!
كان لزاماً علينا فى »وطنى« أن نورد الحقيقة ونحتوى المشاعر التى انفلتت، وحرصنا على وضع الأمور فى نصابها الصحيح بما يوضح بجلاء أن إخلاء سبيل الضابط والأمناء المتهمين بتعذيب بائع السمك لا يعنى البراءة، إنما هو فقط قرار مبنى على سلطة تقديرية للقاضى فى محكمة الجنايات لدى نظره الاستئناف فى قرار الحبس ٥٤ يوماً على ذمة القضية.. وتظل القضية منظورة والمتهمين ماثلون أمام العدالة حتى الفصل فيها.
ليست هذه المرة الأولى -وقطعاً لن تكون الأخيرة- التى تذبح فيها الحقيقة على يد صحافة الإثارة ومعها مواقع التواصل الاجتماعى… وأتصور أننى لو خصصت هذه المساحة أسبوعياً لعرض ما يصلنى فى هذا الإطار والرد عليه لن أجد وقتاً أو مساحة لتناول أى قضايا أو مشاكل أخرى.. صحيح هو ملف مسكوت عنه!!