قد يستخدم كل شيء من الخليقة لدعوة يونان للتوبة “
يونان النبي الذي هو صاحب هذا السفر – وكلمة يونان بالعبرية تعني ( حمامه ) – وقد حدثت ، أحداث هذا السفر في أيام يربعام الثاني ملك السامره وذلك في عام ( 825 – 784 ) ق . م .
وجاء في التقليد اليهودي أن يونان هذا هو ابن الأرملة الذي أقامه إيليا النبي في صرفه صيدا .
أما نينوى – فهي عاصمة الإمبراطورية الأشورية – ويرى البعض أنها مدينة الموصل الحالية ، وقد شيدت على الضفة الشرقية من نهر دجلة . أما سكان نينوى هم بابليون الأصل ( تك 10 : 11 ) يعبدون الإله عشتاروت .
يعلن ” سفر يونان ” عن قبول الأمم لكرازة الإنجيل وإعلان توبتهم ورجوعهم إلى الله ، في الوقت الذى كان اليهود يقاومون الأنبياء ويضطهدونهم ، وقد قال رب المجد يسوع المسيح عن أهل نينوى في (مت 12 : 41 ) : ” رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه ، لأنهم تابوا بمناداة يونان ، وهوذا أعظم من يونان ههنا ” .
وقد عبر القديس جيروم : ( صار اليهود تحت الحكم بينما قبل العالم الإيمان ، تمارس نينوى التوبة ، بينما يهلك إسرائيل في جحوده ويجف ، هم عندهم الكتب أما نحن فلنا رب الكتب ، هم لهم الأنبياء أما نحن فلنا فكر الأنبياء ، هم يقتلهم الحرف أما نحن فيحينا الروح ، لديهم بارباس مقيداً ، أما نحن فلنا المسيح ابن الله حراً ) .
وفي محبة الله العجيبة للإنسان قد يستخدم كل شيء حتى الخليقة الجامدة لتحقيق غايته نحو الإنسان فإن الله نفسه هو الذي :
Ë أرسل النوء العظيم في البحر . Ë أعد حوتاً ليبتلع يونان .
Ë أعد دوده لتأكل اليقطينه وتتلفها . Ë أعد ريحاً شرقيه حارة لتضرب الشمس رأس يونان .
وإن كانت كلها رسالات تبدو عنيفة وشديدة ، لكنها تحقق مصالحه الله مع الإنسان ، وتعلن أيضاً عن عمق محبته له .
والسؤال الذي يطرح في هذا المجال – لماذا أراد يونان الهرب إلى مدينة ترشيش من وجه الرب عوضاً عن الذهاب إلي نينوى ؟!!
نعرض هنا رأي القديس جيروم حيث قال : ” أن يونان خشي من كرازته للأشوريين أعداء بني إسرائيل ذات نفسها – فهرب إلي ترشيش أي إلي الاتجاه المضاد – فأنه لم يحتمل الذهاب إلى نينوى فتخلص على حساب شعب إسرائيل ” .
نفس هذه الروح الغيوره علي وطنها ظهرت في كل من :
Ë 1) موسي النبي عندما قـال : ” إن غفـرت خطيتهـم ” وإلا فامحنـي مـن كتابـك الذي كتبت ” ( خر 32 : 31 – 32 ) .
Ë 2) بولس الرسول عندما قال : ” أود لو كنت أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل أخوتي أنسبائى حسب الجسد الذين هم إسرائيليون ” ( رو 9 : 3 ) .
Ë 3) إن تصرفات يونان هذا – تمثل تصرفات الإنسان السالك حسب هواه لا حسب وصية الله .. فأعتبر هارباً من صوت الله .
عندما هرب يونان من صوت الله فإن الله استدعاه بلغة جديدة تليق به كهارب – وهي لغة الضيقات المتوالية . وأول هذه الضيقات – هو إرسال نوء عظيم ” حتى كادت السفينة تنكسر ” ..
إن الله تحدث مع يونان بأشكال متعددة ، ربما رؤيا أو إعلان للعمل في نينوى ، وعاد الله أيضاً ليحدثه من خلال الطبيعة الثائرة – وإذ سد أذنيه – عاد الله وحدثه من خلال البحارة الوثنيين قائلاً له : ” مالك نائماً قم وأصرخ إلي إلهك عسي أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك ” . وهنا اكتملت إعلانات الله له عن طريق القرعة حيث كشف الله عن حقيقة أن في يونان عله غضب الله – وهذا يذكرنا ما حدث مع بلعام عندما أرشده الله من خلال ” أتانه ” ( عدد 22 : 28 ) . وأيضاً كما تحدث الله مع المجوس من خلال النجم – وكما سمح لقيافا أن يتنبأ وهو لا يعرف حين قال : ينبغي أن يموت واحد عن الشعب كله ..
وقال يونان للنوتيه : خذوني وأطرحوني في البحر ليسكن البحر عنكم ، لأني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم – حيث قدم يونان العلاج – وهذا بالتمام ما حدث للمسيح – حامل خطايا العالم – كان لابد أن أن يلقي به على الصليب ويسُلم للقبر لينعم المؤمنون به بالمصالحة مع الآب . ويحصل الشعب على الفداء .
لقد قدم الله – ليونان – عينه من الأمُميين الذى رفض أن ينادي عليهم بالتوبة والذين يفوقون المؤمنين أنفسهم – لو قورنوا باليهود الذين لهم الشريعة ومعهم النبوات ، ورأوا أعمال المسيح العجيبة وشهادة السماء والأرض والبحر وكل الخليقة . حتي بيلاطس الأممي – غسل يديه أمامهم – ومع ذلك صرخوا قائلين ” دمه علينا وعلى أولادنا ” . ألا يحسبون أفضل منهم ؟!!
ولقد علق القديس جيروم قائلاً : ” كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يغضبوا بني الرب .. ” فبينما لا يود الأمم موت المسيح مؤكدين أنه دم برئ ( مت 27 : 25 ) – فإذا باليهود يقولون : ” دمه علينا وعلى أولادنا ” – لهذا متى رفعوا أيديهم نحو السماء لا يستجاب لهم لأن أيديهم مملئوه دماً .
ثم أخذ البحاره يونان وطرحوه في البحر ، وأما الرب فأعد حوتاً عظيماً ليبتلع يونان فكان يونان في جوف الحوت ثلاث أيام وثلاث ليال . وأكد السيد المسيح ما حدث ليونان في جوف الحوت كرمز لما حدث مع السيد المسيح نفسه بقوله : ” لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاث أيام وثلاث ليال ” ( مت 12 : 40 ) .
وقد قيل ” فصلي يونان إلي الرب إلهه من جوف الحوت ” – وهنا نتأمل في الكلمة التى تقال هنا ” إلي الرب إلهه ” – وكان قبلاً يقال إله السماء – والفرق بين التعبيرين أن الإنسان في الضيق يشعر أن الله قد نزل من السماء ويسنده في ضيقته أنه هو إله المتضايقين والمتألمين – أنه حقيقاً هو إله كل إنسان مرَّ النفس – حتى وإن كان في جوف الحوت – في أعماق البحار – في وسط النار الملتهبة – تحت الأنقاض فإن الله يستمع لصلاته – ليتنا لا نهتم بالمكان – وهنا يقول يونان ” دعوت من ضيقي الرب فأستجابني ، صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي ” .
وإدراك يونان – أن الله هو الذي طرحه في العمق في قلب البحار ومخاطرها ، ويكمل أيضاً حديثه قائلاً : ” فقلت قد طردت من عينيك ، لكننى أعود أنظر إلي هيكل قدسك ” – فأنها صورة حقيقية للصليب ، حيث إذ صار كمطرود – حُسب رمزاً للسيد المسيح المطرود والداخل إلى مقدساته السماوية . ويستطرد قائلاً : ” ثم أصعدت من الوحدة حياتي أيها الرب إلهي ! ، وهذا يذكرنا – بما حدث لرب المجد – عندما نزل إلى الجحيم – لكي يحرر الذين أسرتهم المياه وأغرقتهم .
” وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر ” – ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم عن تلك الآية قائلاً : “إن الله قدم ليونان دروساً متوالية في الترفق بالآخرين دون أن يؤذيه – ألا يليق به أن يترفق هو بأخوته في البشرية وإن كانوا أمميين ؟!!
إن تمتع يونان – بالحياة بعد الموت – دعاه الرب ثانية للخدمة لينعم أهل نينوى أيضاً بالحياة – والعجيب أن الله لم يعاتب يونان ولو بكلمة واحدة – ولا جرح مشاعره بسبب هروبه .
دخل يونان – المدينة العظيمة نينوى – وناد لها بما كلفه الله – قائلاً أن بعد أربعين يوماً تنقلب المدينة – ويقول الكتاب : ” فأمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبس مسوحاً من كبيرهم إلي صغيرهم ” .
ويعلن القديس جيروم في هذا الحدث العظيم قائلاً : ” أمنت نينوى ، أما إسرائيل فقاوم غير مصدق ، أمن أهل الغرله ، أما أهل الختان فاستمروا في عدم إيمانهم ” حيث قالوا : ” لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك ” .. ويقول الكتاب ” فلما رأي الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة – ندم الله على الشر الذى تكلم أن يصنعه لهم فلم يصنعه ” .. ويقول الكتاب ” فغم يونان غماً شديداً فأغتاظ وصلي إلي الرب وقال : آه يا رب أليس هذا كلامي . إذ كنت بعد في أرضي – لذلك بادرت إلى الهروب إلي ترشيش لأني علمت أنك إله رءوف ورحيم بطئ الغضب ، كثير الرحمة ونادم علي الشر . فالآن يا رب خذ نفسي منى لان موتي خير من حياتي ، فقال الرب : هل اغتظت بالصواب ” .
فأعد الله يقطينه ، فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلصه من غمه ، ففرح يونان من أجل اليقطينه فرحاً عظيماً – كما يقول الكتاب : ” ثم أعد الله دوده عند طلوع الفجر في الغد وضربت اليقطينه فيبست ” – وأيضا بعد موت اليقطينه أن حرارة الشمس قد ضربت رأس يونان – فأغتاظ وطلب لنفسه الموت حيث قال : ” موتي خير من حياتي ” .
وأراد الله من اليقطينة – أن يكلم الإنسان باللغة التى تكشف أعماقه الخفية – حيث أراد أن يتحدث إلي يونان : أنه هو الذى أقام شعب إسرائيل وتعهده بالرعاية ، وأخرجه من عبودية فرعون – وقدم له الشريعة – ودخل به إلى أرض الموعد – وأعطاه النبوات – ولم يتركه محتاجاً شيئاً ، ألا يزعل الله علي هذا الشعب الضائع .
وأيضاً – شعب نينوى – الذي سيطر الشيطان على أفكارهم – وضعوا الشر – والآن يقدم لهم الله يد العون والمساعدة لينقذهم – ألا يتضايق الله على صنعه يديه – فيقول ليونان – أنت تضايقت من أجل يقطينه – لم تزرع – ولم تروى – ولم تعتنى بها – فكم بالحري ما صنعه الله في هذا الشعب – ألم يحتاج إلي يد المعونة لإنقاذه من شروره وعودته إلى الحظيرة التى خرج منها .
وختم الله كلامه مع يونان – أنت تشفق علي اليقطينه التى لم تتعب فيها ولا ربيتها التى نبت ليله كانت ، ونبت ليله هلكت – أفلا أشفق أنا على ( نينوى ) المدينة العظيمة – الذي يوجد فيها أكثر من مائة وعشرون ألف نسمة من الناس لا يعرفون يمينهم من شمالهم ، وبهائم كثيرة … هكذا يكشف الله عن محبته للبشرية التى هي عمل يديه .
ـــــــــــــــــ
المراجع : يونان – القمص تادرس يعقوب ملطي – الناشر كنيسة مار جرجس بأسيوط .