يسعدني أن أستهل الكتابة في ملف الأمور المسكوت عنها هذا العام -وبعد أن شغلت هذه المساحة خلال الأسبوعين الماضيين بمواد مرتبطة بعيد الميلاد المجيد- بعرض قضية أنا مثقل بها وآليت علي نفسي ألا أتركها.. إنها قضية المساواة بين الرجل والمرأة في أنصبة المواريث… قضية كتبت بشأنها مرات عديدة مطالبا بتصحيح الغبن الواقع علي المرأة المصرية بسبب حصر نصيبها في الميراث في نصف نصيب الرجل, وتطلعي إلي ترسيخ المساواة الدستورية في حقها الحصول علي نصيب مساو لنصيب الرجل, ودعوتي في هذا السياق إلي مبادرة الكنيسة القبطية بشمول هذا المبدأ بنود لائحة الأحوال الشخصية للمسيحيين التي نص عليها الدستور في مادته الثالثة, من أجل ترسيخ تلك المساواة للمرأة القبطية أولا, وبأمل أن يأتي اليوم الذي تنسحب المساواة ذاتها علي المرأة المصرية إطلاقا.
ولأني عبر دفاعي عن هذا المسعي تسلحت بالإرث التاريخي والتشريعي للوائح الحاكمة للأحوال الشخصية للمسيحيين في مصر, دعوني قبل أن أستعرض الحكم القضائي موضوع هذا المقال أن أسرد واقعة تاريخية تنتمي إلي ذلك الإرث التاريخي.. حيث كانت لقداسة البابا كيرلس الرابع مكانة عالية عند بطريرك الروم الأرثوذكس -البابا كاللينيوس- حتي أن هذا البطريرك ائتمنه علي رعاية شعبه عندما سافر إلي اليونان, ولذلك استدعاه الخديوي سعيد باشا في يوم من الأيام ليعرض عليه أن يكون حكما في خلاف نشأ في أسرة تابعة للكنيسة الكاثوليكية حول نصيب المرأة في الميراث: هل هو مساو لنصيب الرجل أم نصفه؟.. فالتفت البابا كيرلس الرابع إلي أصحاب المشكلة وسألهم: حينما تفعل المرأة الصلاح هل يعطيها الله الثواب من عنده أم لا؟.. أجابوه: نعم يعطيها.. فعاد يسألهم: وهل يكون جزاؤه إياها ناقصا لأنها امرأة؟.. أجابوه: طبعا لا, إنه يعطيها الجزاء الذي تستحقه كاملا.. فقال لهم: مادام الله يمنح المرأة الثواب كاملا أفلا يجدر بمن يؤمنون به أن يعملوا مثله ويطيعوا أوامره؟… فقبل المحتكمون إليه وأعطوا أخواتهم حقوقهن كاملة.
أما عن الحكم القضائي الذي أسعد بعرضه اليوم فهو الحكم الصادر عن محكمة استئناف القاهرة -الدائرة (158) أحوال شخصية بتاريخ 2016/11/20 في الاستئناف المقيد برقم 11666 للسنة 133 قضائية, وموضوعه تظلم المدعية -التي أمتنع عن ذكر اسمها علاوة علي أسماء باقي أطراف الدعوة لعدم استئذانهم في ذلك- من حكم محكمة أول درجة التي حكمت بتحقيق وفاة شقيقتها وانحصار تركتها بينها وبين شقيقها بحيث تقسم التركة إعمالا لمبدأ إعطاء الذكر نصيبا مساويا لنصيب أنثيين, أي للذكر ضعف نصيب الأنثي.
تضررت الشقيقة من حكم محكمة أول درجة ورفعت دعوي قضائية لاستئناف الحكم حيث نظرتها المحكمة وقالت في معرض حكمها الآتي: … حيث إن الحكم المستأنف لم يلق قبولا لدي المستأنفة فقد طعنت عليه وفق صحيح القانون بطلب الحكم بقبول الاستئناف شكلا والطعن بالدستورية علي المادة الأولي من القانون رقم (25) لسنة 1944 والفقرة الأخيرة من المادة الثالثة من القانون رقم (1) لسنة 2000 للأحوال الشخصية لمخالفتهما المادة الثالثة من الدستور المصري, وفي الموضوع بإلغاء الحكم المستأنف وتوزيع الأنصبة ليكون للأنثي مثل حظ الذكر وهما متساويان في توزيع الأنصبة في الميراث طبقا لدستور 2014 ومبادئ الشريعة المسيحية, وذلك لأسباب حاصلها الخطأ في تطبيق القانون والدفع بعدم الدستورية.
وجاء في معرض الحكم الاستئنافي: … حيث إنه لما كان الثابت أن مستحقي إرث المتوفاة هما شقيقها (….) وشقيقتها (….) فمن ثم تكون حصصهما الميراثية متساوية بينهما طبقا لنص المادة (247) من لائحة الأقباط الأرثوذكس وطبقا لشريعتهم لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثي.. وحكمت المحكمة بقبول الاستئناف شكلا وفي الموضوع بتعديل الحكم المستأنف بجعل الورثة مستحقين إرث المتوفاة بالسوية بينهما.
*** كل الترحيب والارتياح بهذا الحكم الذي أنصف سيدة قبطية في نصيبها من الميراث.. وكل الأمل أن يأتي اليوم الذي تتمتع فيه المرأة المصرية بذات المساواة.