تغدو الطيور تاركة أوطانها، قاطعة مئات الأميال، خوفًا من برد الشتاء، بينما تغادر الشباب هاربة من الجوع والفقر، آملين وطامحين في بناء مستقبلهم بشكل أسرع، ما يجعلهم لا يبالون بالمخاطر التي يواجهونها حتى يصلون إلى الجسر الآخر، الذي يجسد ملاذ للحياة الكريمة بالنسبة لهم.
لم يعد مفهوم الهجرة قاصر على الأميين فحسب، بل أصبح الشباب الجامعي والذين دخلوا سوق العمل المصرية هم أكثر ما يسعون إليها.
قال أحمد الطراوي، يعمل في دعم المبيعات، وحاصل على بكالوريوس في التجارة، لـ “وطني نت”، إنه فكر كثيرًا في الهجرة ولا يزال يفكر، ولكن ما يوقفه أنه ليس لديه الأموال الذي سيسافر بها سواء عن طريق هجرة شرعية أم غير شرعية.
وأوضح أن الظروف المادية وارتفاع الأسعار والغلاء هو ما يجعله لا يوقف تفكير في ذلك :”محدش لاقى ياكل ولا يخلى عياله يأكلوا”.
وأشار إلى أن الدول التي يرغب المهاجرون الذهاب إليها، يصعب إصدار تأشيرات لها بصورة رسمية.
وأضاف “الطراوي” أنه لا يزال يحب هذه البلد برغم ما يلقاه من صعوبات في المعيشة، مؤكدًا على أن الكثيرين ممن خرجوا بهذه الطريقة دون تفكير وصلوا لمرحلة النفور من البلد بسبب ضيق العيش.
أما عادل عزت، حاصل على معهد حاسبات، أكد على أنه يبحث كل يوم على مكتب سفريات كي يرحل دون عودة، ولا يهم بالنسبة له الوظيفة التي سيعمل بها، فهو على استعداد العمل كعامل بوفيه، إلى أن يصل إلى ما يريد، موضحًا أن الدول الأوربية تقدر المجهود، بينما هو يعمل هنا في مجال التسويق بمجهود عشرة أفراد، فلا يجني سوى زيادة الأعباء دون مقابل مادي، ما أشعره بالإحباط.
ولم يعد مفهوم السفر قاصرًا على الشباب فحسب، بل تسعى الفتايات له أيضًا، قالت مروة أنور، حاصلة على ماجستير في علم النفس، وتعمل كمعالجة نفسية، إنها كانت تفكر في السفر وليس الهجرة، حيث أن هناك عدة روابط تجعلها تعود إلى ذلك الوطن، مثل الأهل، وكذلك أنها لا تعلم طبيعة العيش في البلد التي ستسافر إليها، ولأنها مؤمنة بالتغيير وبأن الكوادر المصرية الناجحة في عملها عليها السفر والعودة.
ولكنها فقدت إيمانها بهذه الفكرة ويأست في التغيير وتفكر حقا في الخروج بلا عودة، مهما كلفها ذلك من مخاطر بحثًا عن حياة كريمة.
ومن ناحية أخرى، يرى محمد غنيم حاصل على ماجستير في القانون ويعمل كمحامِ، أنه فكر في السفر كثيرًا، ولكنه توصل إلى أن رب مصر هو رب العالم الأوروبي، وأن من لم يستطع جلب المال في وطنه لن يستطع جلبه في أي دولة أخرى.
وعقب غنيم على مخاطرة الشباب بأرواحهم مقابل الخروج من البلد، قائلًا :”الشباب فقدوا الأمل والانتماء مش معنى أن الظروف وحشة في بلدي أني أسيبها، بدل ما أموت نفسي ما أنا أحاول في بلدي بس بشكل تقليدي، المشكله أننا متعلمناش نفكر بشكل مش تقليدي”.
وعلى جانب آخر، هناك من استطاع تحقيق حلمه وسافر عن طريق الهجرة غير الشرعية، قال بيتر س :”سافرت في السنة النهائية من الجامعة، قبل إنهائي للدراسة، فكسرت الفيزا وتزوجت من هناك، كانت هذه الفرصة الوحيدة لتحقيق حلمي”.
واسترسل بيتر شارحًا معاناته، حيث مطاردته وتهديده بالترحيل، ولكنه رغم كل ذلك عمل بالعديد من الوظائف.
لم يندم بيتر على عدم إتمام دراسته الجامعية، فهو يرى أن حاله أفضل من حال أصدقائه الذين أنهوا دراستهم ويعملون الآن بمقابل مادي زهيد، لا يسمح بالمعيشة الآدمية.
وتظل تصريحات الحكومة بعيدة عن رؤية الشباب، حيث قال هيثم سعد الدين، المتحدث باسم وزارة القوي العاملة:” وزارة القوى العاملة ليست طرفًا في هذه القضية، ولكن الجانب هو ما يخص موضوع البطالة، حيث تدهور الحالة الاقتصادية بالبلاد، وتأخر حركة نمو الاستثمار، وكذلك الوضع السياسي/ حيث تعرض البلاد لثورتين متتاليتين”.
ولكنه أكد على أن القوى العاملة تعمل جاهدة، وتتيح عشرات الوظائف تشمل القطاع الخاص والعام، وفقا لما يحتاجه سوق العمل.
وأضاف أن الأزمة تكمن في ثقافة شعب اعتقد أن الحل في الهجرة، وبرغم كل شيء فهم يقبلون وظائف بالغربة لا يرتضون النظر ببلادهم.
وأشار إلى أن البلد بحاجة إلى أبنائها، مؤكدًا على أن الوزارة ستظل تنشىء المزيد من المعاهد التجريبية خاصة مع التزايد التدريجي لحركة الاستثمار في السوق المصرية.
وقال أبو بكر الديب، الخبير الاقتصادي، إن مأساة الهجرة غير الشرعية، سببها الرئيسي البطالة وارتفاع الأسعارن وعدد من الأسباب الاقتصادية الأخرى كتوقف الاستيراد وغيرها.
وطالب الديب الحكومة بتوفير مصادر بديلة للشباب، من خلال دعمهم ماليًا وتوفير مشروعات متوسطة ومتناهية الصغر.
وشدد الديب علي ضرورة تيسيير المشروعات من خلال الحكومة لإدماج الشباب بها وجعلهم يعيشون في وطنهم آمنيين.
وأشار إلى أنه لابد من تيسيير القروض والصبر علي الشباب وليس بمجرد أن يتعسر الشباب في سداد ما عليه من قروض يقضى بحبسه.
ويرى محسن العسيري، أستاذ الصحة النفسية والتنمية البشرية، إن الشباب يبحث عن حلول، وهذا هو الحل المتاح لهم حتي وإن كان حلا مرفوض وغير صحيح، فالشباب يعانون من ثلاث مشاكل رئيسية أولها الأسرة التي تضغط على أبنائها وثانيها أزمة الانتماء للوطن وثالثها المشكلة الاقتصادية.
وأكد على ضرورة تنمية ثقافة وإحساس الانتماء لدى الشباب، من خلال تحقيق إمكانيات محترمة تساعدهم علي العيش في البلاد وعدم الهروب منها.
وأشار إلى أنه يوجد حالة من الاستغلال لظروف الشباب وبيع الوهم لهم من خلال سماسرة يقبضون أثمانًا باهظة منهم وقد يكلف الأمر حيواتهم.
وتحدث العسيري عن النموذج السوري الذي يتشدق به البعض، قائلا :”في السوق المصرية لا يتعدى ال 10% من عددهم الحقيقي في مصر، علي الرغم أن باقيتهم يتسولون العيش بشتي الطرق ويزوجون بناتهم سريعًا لضيق اليد”.
وأردف العسيري إلى أن المشكلة الاقتصادية التي تسود البلاد جعلت ظروف الحياة عسرة بشكل كبير و لايوجد ضابط حقيقي للأسعار.
ونفى ما يتردد عن الشباب من التكاسل والانتظار على المقاهي، مؤكدًا على أن الشباب ينتظر عمل يدر له دخلًا كبيرًا.
وقال وديع فهمي واصف، كبير معلمي الفلسفة وعلم النفس بالقاهرة : إن الشباب يسافر لعاملين لا ثالث لهما وهما هوس المال وهوس الجنس، فالشباب الذي يسافر من القرى وينجح ويجد عائد مادي كبير في الغالب يغار منه باقية الشباب ويسعون للسفر للحصول علي هذا العائد المادى، كما أن مايتناقله الشباب عن سهولة الحصول علي المتع الجنسية يجعل الكثير متلهفين علي السفر في ظل حالة الكبت والحرمان التي يعانيها الشباب هنا والضغوطات التى يعيشون تحتها.
وقال دكتور سعيد المصري، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة”: إن الأمر بدأ بمعدلات كبيرة جدًا في أوائل السبعينات فأصبح الحل الأمثل لكثير من المصريين أن يهاجروا للدول العربية، حيث أن الأوضاع بعد الحروب التي خاضتها مصر كانت سيئة جدًا اقتصاديًا فكان هذا هو الحل المثالي مما ساهم في خلق الطبقة المتوسطة، ومع انتهاء الحقبة النفطية وازدياد الأوضاع سوءًا في مصر أصبح السبيل هو الهجرة غير الشرعية أو اللجوء، إلا أن اللجوء متاح للأماكن التي بها صراعات مسلحة مثل ما يحدث في سوريا اليوم.
مشكلة الهجرة غير الشرعية مرتبطة بالسماسرة، وهي شبكة كبيرة من العلاقات الخارجية والداخلية المتورطة في هذه العمليات.
وأشار “المصري” إلى أن القوانين في البلاد الأوروبية حاليًا، أصبحت لا تسمح بتواجد الكثيرين، لذا اتجه السماسرة إلى الأطفال أقل من 16 عام، حيث أن القوانين تسمح بتعليم الأطفال والإنفاق عليهم، وما الأمر إلا تحايل على القوانين، ليس إلا.
ولفت المصري إلى أن معظم من يهاجرون ليسوا من الفئة الفقيرة، ولكنهم ممن يطمحون في رفع مستوى معيشتهم، مؤكدًا على أن المشكلة ليست مشكلة انتماء.
ويحلل أمير سالم، الحقوقي والمحامي بالنقض، بأن الهجرة غير الشرعية هي نوع من الهروب من انعدام الأمل، ورأى أنهم أفقهم ضيق وبؤساء في الإنسانية.
وأضاف أن هؤلاء الضحايا لا يأخذ ذويهم اية تعويضات أو تأمينات، بل يعاملون في الشرائع الدينية معاملة المنتحر ولاجنازة لهم أو دية، وهذا ضد الإنسانية، حيث أن لدينا مايقرب من 44% من السكان تحت خط الفقر ونسبة بطالة تتجاوز 28%.
مشيرًا إلى أننا نحتاج إلى نظام سياسي واجتماعي مختلف تمامًا عما نحن فيه، نظام يدرك قيمة العدالة الاجتماعية والكرامة والسكن والصحة والتعليم والوظيفة، وهذه المنظومة كلها مؤسسة لصالح الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادى والمالي والحل غير متاح الآن.