«قراءة فى ملف»الأمور المسكوت عنها (٢٠٦)
فى جلسة تاريخية أقر مجلس النواب »قانون تنظيم بناء وترميم الكنائس« قبل انقضاء دور الانعقاد الأول للمجلس تفعيلاً للمادة (٥٣٢) من الدستور، وبذلك يصبح لمصر لأول مرة فى تاريخها تشريع مصرى وطنى برلمانى ينظم بناء وترميم الكنائس ويكفل لمسيحييها حقوق ممارسة الشعائر الدينية، بعد أن كانت تتحكم فى تلك الحقوق فرمانات عثمانية استعمارية وقرارات وزارية غاشمة وسلطات أمنية مستبدة.
لأول مرة منذ ٠٦١ عاماً -تاريخ صدور »الخط الهمايونى« عن الباب العالى العثمانى عام ٦٥٨١- يصدر تشريع مصرى خالص ينظم بناء وترميم الكنائس ويقنن أوضاع جميع الكنائس القائمة على أرض مصر وغير مرخصة.. قائمة وغير مرخصة لأنها شاهدة على أزمنة أزمة وممارسات تعصب ضد الأقباط وواقع مريض يفرز بينهم وبين إخوتهم المسلمين فى شأن دور عبادتهم وشعائرهم الدينية.. ذلك الواقع أورثنا أعداداً كبيرة من الكنائس بنيت دون تراخيص وتسببت فى صراعات بغيضة بين الأقباط والمتأسلمين أحياناً كثيرة وبين الأقباط وأجهزة الدولة أحياناً أخرى وانتهت معظم تلك الصراعات بانتزاع الأقباط حق الإبقاء على الكنيسة والصلاة فيها ورضوخ الأجهزة المحلية والأمنية لذلك لكن مع عدم إصدار
تراخيص رسمية لها والإبقاء عليها كمبنى »غير شرعى« يصلى فيه الأقباط ويزوره المسئولون فى المناسبات للمجاملات وفى الأعياد للتهنئة وتعين له السلطة الأمنية الحراسة الخاصة به من رجال الشرطة ويرصد فى الخرائط المساحية الرسمية كمبنى كنيسة.. لكن لدى أى بادرة اعتداءات يتعرض لها من جانب المتعصبين أو الغوغاء أو الخارجين على
القانون تتنصل السلطات كافة منه ولا تعترف به، بل تسارع فى بعض الأحيان لإغلاقه إما بحجة أنه »كنيسة غير مرخصة« أو بمقولة »الحفاظ على الاستقرار والسلام الاجتماعى«!!!
اليوم تمتلك مصر تشريعاً مصرياً وطنياً خالصاً يضع حداً لذلك الميراث المريض، تشريع غير مسبوق ليس فقط لأنه يفتح الباب لحرية بناء كنائس جديدة أو لتعديل وتجديد وترميم كنائس مرخصة قائمة، لكن لفك أسر جميع الكنائس غير المرخصة والتى ظلت عقوداً طويلة مهددة ورهينة »سكوت السلطة عنها«!!!.. وتلك ظاهرة فريدة تكاد تنفرد بها مصر
عندما تترك كنائس غير مرخصة تقام فيها الصلوات والشعائر معلقة لا هى تحصل على شرعيتها بتقنين أوضاعها ولا هى تغلق لمخالفتها للقانون.. اليوم يحصل خلاص لهذه الكنائس بموجب القانون الجديد.
إذاً يحق لنا أن نرحب بقانون بناء وترميم الكنائس وأن نستقبله بتفاؤل وارتياح.. صحيح أن كلاً منا قد تكون له تحفظات على مواد القانون، وصحيح أن هناك تفاوتاً ملحوظاً بيننا فى درجة رضائنا عن تفاصيله، وصحيح أن الكثيرين منا كانوا يأملون فى أن يصدر القانون خالياً من بعض الشروط والمعايير التى صدر متضمناً إياها، لكن فى النهاية
صدر القانون بمواده وشروطة ومعاييره التى بين أيادينا.. ويتحتم علينا إنها الجدل الذى كان محتدماً بشأن صياغته والنظر نحو إخضاعه للتطبيق العملى فذلك هو السبيل الحكيم لتقييمه واختبار مدى نجاحه فى تحقيق الأهداف التى تم تشريعه من أجلها... فالبكاء على القانون لن يفيد أحداً واتهامه بالقصور فى بعض جوانبه لن يغير واقعه والدعوة لتعديله قبل الشروع فى تطبيقه نوع من العبث!!
الأحرى بنا أن نتقدم فى شتى محافظات مصر بأوراق لبناء كنائس جديدة وبمشروعات لتجديد كنائس قائمة وبطلبات لتقنين أوضاع كنائس غير مرخصة.. وننتظر لنرى ماذا يكون فى شأن أى من تلك الطلبات والمشروعات والأوراق، وكيف تستجيب السلطات لتطبيق القانون الجديد.. وهل يتم تمريرها باليسر أم عرقلتها بالعسر؟.. إن التطبيق العملى سوف يفرز
واقعاً مشفوعاً بالأدلة الدامغة يعكس مدى نجاح قانون بناء وترميم الكنائس فى تحقيق كفالة الحريات والحقوق التى نصت عليها المادة (٥٣٢) من الدستور.. فإذا كانت النتائج إيجابية نقول هنيئاً لمصر وأقباطها هذا التشريع أما إذا لم تكن كذلك فلايزال فى وسعنا -نحن الأقباط مع إخوتنا المسلمين- اللجوء إلى البرلمان لتعديل القانون وترسيخ حقوق المواطنة والمساواة بشأن دور العبادة.
ودعونى فى هذا السياق أشير إلى بعض ما جاء فى مقال الأستاذ محمد عبدالهادى علام رئيس تحرير »الأهرام« الذى نشر بتاريخ الجمعة ٢ سبتمبر الجارى تحت عنوان: »قانون بناء الكنائس.. خطوة للأمام أم للخلف؟!« ويقول فيه: »… على خلاف ما ظهر فى أعقاب موافقة البرلمان على قانون بناء الكنائس من ترحيب من أطراف عدة سواء فى الجانب المسيحى أو الجانب المسلم، وبرغم أنه جاء على أساس المادة (٥٣٢) من الدستور فإن هناك غصة من تمرير قانون يحمل لغة لا تناسب لغة المساواة فى الحقوق والواجبات وأسس الدولة المدنية التى خرج من أجلها المصريون على اختلاف مشاربهم فى ٠٣ يونية ٣١٠٢ فالأمل فى صدور تشريع لبناء دور العبادة كان مقصوداً به من البداية المساواة الكاملة فى حقوق المواطنة وما يترتب على ذلك من إنهاء عقود من التفرقة. كنا نعتقد أن ثقافة المجتمع ستتقبل نوعاً من التقدم على طريق المواطنة، إلا أن مغازلة بعض الأفكار والتيارات
فى لجنة الخمسين عند صياغة الدستور أنتجت مواداً تشكل عائقاً أمام بناء الدولة المدنية، ووضعت قالباً صارماً للتعامل مع شأن دور العبادة للمصريين من غير المسلمين، والأمل الآن فى ألا تكون هناك توابع سلبية لو تعثرت الجهات الإدارية فى تنفيذ القانون حتى لا نترك تأثيراً غير طيب على الأجيال المقبلة. كنا نريد قانوناً أكثر شمولاً، يقدم المجتمع المصرى فى صورة أكثر نضجاً، ولا يقدمنا فى صورة رجعية تعيد التمييز بقانون.. فقد أعتقد الناس أن الدستور يتحدث عن »قانون موحد لبناء دور العبادة« دون أن يقرأوا الدستور، بينما تلك المادة (٥٣٢) صيغت على نحو لا يتوافق مع سقف طموحات المجتمع مما يعبر عن مواءمات كان يفترض التسامى
فوقها«.
❊❊❊ شكراً جزيلاً للأستاذ محمد عبدالهادى علام، فقد عبر فى هذه السطور بوضوح وشجاعة عما يجيش فى صدور الكثيرين -وأنا منهم- لكن يظل التوجه الوطنى الحكيم أن نعمل على اختبار تطبيق القانون، أملاً فى دخول عهد جديد لبناء وترميم الكنائس.. وإلا فلنعمل على تعديله.