انزلق الجميع في دوامة العيش.. الكل يسعي لكل البعض لا يجني شيئا ولا يخرج خاوي اليدين.. الرواتب لا تسعف الموظفين علي سداد المتطلبات الأساسية للحياة.. فما بالنا بمن هم بلا دخل ولا عمل ولا أمل لهم إلا فيمن يصنعون الرحمة معهم.. لا يرون من المباهج سوي لقمة نظيفة وسترا عن أعين المارة في طرقات العوز.. الكل يلهث خلف الشبع كي يطعم بنيه.. بينما الطامعون يستقرون فوق كراسيهم لا يعبأون بآلام اللاهثين أو صوت أنينهم.
في كل يوم حالة جديدة بل حالات تسقط تحت خط الفقر وتبحث عمن يساند الضعف فيها.. كثيرون في دواماتهم يضيعون وقلة تجد الطريق للسند.. وفي موسم بدء الدراسة يقاوم الجميع السقوط تحت أقدام الفقر.. ونحاول نحن دعمهم قدر ما نستطيع.. ضمن أولئك كان عم وديع.
رجل كفيف من رواد باب افتح قلبك.. لديه ثلاث بنات في مراحل التعليم المختلفة.. لا يبتغي إلا تعليمهن.. جاء منذ أيام ليحظي بمساعدة قبل بداية العام الدراسي.. قائلا: الحاجة غالية أوي والشنط اللي الكنيسة اشتريته ماتناسبش بناتي لأنهم كبار.. ممكن تناسب الأطفال ومش عارف أعمل إيه.. ده غير الكشاكيل والأقلام والأدوات والكوتشيهات.. ده غير مصاريف المواصلات اللي هاتبتدي مع الدراسة كل يوم وكل بنت لازم تاخد علي الأقل خمسة جنيه وساندوتشات.. شوفي كيلو الجبنة بقي بكام.. واللبن والبيض.
يا أستاذة أنا رحت أشتري بيض لقيت الواحدة بجنيه.. البيضة بجنيه طيب لو كل بنت أكلت بيضة واحدة آدي 3 جنيه كل يوم.. غير العيش والجبنة واللبن.. ولا أقول لك بلاش لبن.. جبنة ما حدش مش بياكل جبنة.. طيب أجيب منين؟؟ أنا وأمهم مش عايزين نأكل أصلا.. كنت باتصور إني ممكن ماقدرش أعيشهم ولا ألبسهم ولا أعلمهم كويس.. لكن كمان مش قادر أأكلهم كويس.. ده صعب علي أي أب.. العيال هاتعيا وتضعف أنا خايف عليهم.
كانت ابنته تصطحبه .. أحنت رأسها خجلا.. حينما تنظر إليها لا تصدق أنها في السنة الثانية من المرحلة الثانوية التجارية.. جسد نحيل جدا.. نظارة غليظة الزجاج تأكل نصف وجهها علي الأقل.. واصفرار يعلو بشرتها.. نظرت إليها وإذا البؤس محمولا علي قسماتها.. طال روعة ربيعها الذي بالكاد بدأ يتفتح.. نفذنا ما طلبه منا عم وديع.. فشكرنا والفرحة تغمره وانتهي اللقاء.
توجه الرجل إلي باب الغرفة ثم عاد قائلا: أنا عندي طلب ومحرج أقوله, فأجبته: لا حرج تحت أمرك.. استكمل قائلا: عندي واحد معرفتي في المنيا تعبان جدا حالته صعبة خالص أسوأ من حالتي.. ماتقدروش تساعدوه ربنا يساعدكم؟, قلت له أعطه رقم التليفون وسنجري له بحث الحالة.
لم يمض أسبوع حتي اتصل بنا عم ناصف من المنيا.. إنه صديق عم وديع.. يبدو أن الرجل في حالة سيئة جدا.. صوته المهتز الخائف. كلماته المتبعثرة.. أنفاسه التي جاءت عبر الأثير مختنقة لا مفر لها ولا مقر.. وقررنا موعد بحث الحالة.
هناك فري قرية صغيرة بالمنيا تدعي فاقوسة.. داخل مساكن الأيواء التي انتقل إليها بعد أن كان يقطن في شقة في إحدي عزب القرية وباعها حتي ينفق علي زوجته المريض.. صارت حجرته في فاقوسة أشبه بالسجن الانفرادي.. يحيا ف يها وحيدا معوزا.. في زنزانة الأحزان ولا هو حي ولا هو ميت.. لا ولدا ولا سندا ولا صاحبا ولا شقيقا.. بعد أن فارق ولداه الحياة صغارا ولم يكن لديه فرصة للإنجاب مرة أخري.. وضاع آخر ونيس له بعد صراع زوجته مع مرض السرطان اللعين.. صراع لم يدم سوي شهور تناسب ما يملكون من مال.. فالعلاج للقادرين متاح وللفقراء رفاهية يستحقهم غيابها.. الموت أرخص أحيانا من الشفاء.
عم ناصف لديه خمسة من الإخوة ليس بينهم من يحن عليه سوي شقيقة واحدة حالها متعثر مثله كل ما تملكه أن تقدم له وجبة أسبوعية.. أما الآخرون فكانوا شركاء معه في ورشة النجارة.. جارت عليهم الأيام وأفقرهم طمعهم بعد أن تقاسموا نصيبه وطردوه منها.. كل ما يشتري حاجة يكسروا الباب وياخدوها ويدخلوا عليه وهو نايم, خاصة أنه أصيب بدوالي في ساقيه تبدأ من أصابع قدميه وتصل إلي الخصيتين.. ولا يستطيع أن يحصل علي العلاج.. حركته ضعيفة.. لا يعمل ولا معاش له ولا دخل ثابت ولا غير ثابت.. يعاني من ارتفاع الضغط ومشاكل بالقلب.. ولا يمكنه شراء الأدوية.. أقرب كنيسة علي بعد 15 كيلو مترا من سكنه.. خدام الكنيسة يخشون الوصول للمنطقة التي يقطنها.. إذ تعج بتجار المخدرات والأشقياء الذين لا يتركون مسكنا دون سرقة أو إيذاء في غياب تام للأمن.
خاضت مخاطر زيارته إحدي باحثات باب افتح قلبك.. لم تجد سوي غرفة لا تتعدي العشرين مترا.. لا يوجد بها سوي سرير أطفال يرقد عليه متمنيا ألا يصحو أملا في الراحة.. وثلاجة متهالكة فارغة إلا من الماء وقطع متعفنة من الجبن والخبز.. ومنضدة متهالكة أيضا. لم يكن من المنطق أن نسأله عما يحتاج فالمشهد ينبئ عن الحال.
خرجت الباحثة ريهام اشترت له طعام ووضعته في الثلاجة.. فهي لا تعلم متي يمكنها زيارته مرة أخري في منطقة غير آمنة يخشاها الجميع.. قبل أن ترحل وتتركه قال لها: لا أتمني إلا الخروج من هذا المكان الذي أشعر فيه أنني منفي بين قطاع الطرق والمسجلين.. وعلاجي ومأكلي ليس لي طلبات ولا احتياجات أخري.. إن استطعتم خيرا وبركة.. وإن لم تستطيعوا فإرادة الله نافذة فيما تبقي من العمر.