حينما يحتل الضعف نفوسنا لا نسأل عن دروب القوة ولا نعلم لها سبيلا .. و ربما نهرب منا أن دعانا لها الدعاة .. و مع طول الاحتلال ننسي أننا أقوياء بالفطرة ولا نعود إلا مرغمين أو منهزمين .. في دروب الضعف تاهت ثم عادت .. إنها سيدة كتبنا عنها منذ أسابيع تحت عنوان الكؤوس المكسورة علي منصة الجلسة العلنية .. في العشرينات من عمرها طحنها الفقر.. ودفعها انعدام الإمكانيات إلي الهاوية.. وحينما كتبنا عنها روينا نبذة عن ظروف انتقالها من الصعيد إلي القاهرة إذ جاءت مع زوجها ووالدتها وأخ في سن المراهقة وشقيقة تصغرها بعامين.. وعندما زارتنا للمرة الأولي منذ سنوات كانت تأتي لتطلب مبالغ بسيطة في كل مرة ما بين 150 إلي 300 جنيه.. تحاول أن تساعد أسرتها قدر طاقتها .. أو هكذا تصورنا ورغم أننا أجرينا بحثا للحالة إلا أن الأسرة تركت تاريخها حينما تركت القرية الصغيرة في الصعيد .. وحاولنا المساعدة قدر الإمكان وبتحفظ شديد.
ترددت علي الباب . .و باتت تروي همومها حتي صرحت لي ذات مرة أن رفيقا لها في علاقة آثمة يؤكد أن لديه تسجيلا فاضحا لها.. بعد أن سقطت معه في الخطية مقابل خمسين جنيه لتعيش منها هي وزوجها.. لم استجب لروايتها و ربما لم أصدقها أيضا فمن ذا الذي يتطلع إلي امرأة في حالها .. فالشحوب يعلو وجهها و جسدها الهزيل الذي أصبح جلدا فوق عظام .. كيف تستخدمه في الحرام ..لكن يبدو أن الحرام لا يعرف الجمال .. الحرام لا ينتقي و لكنه يغرف من البراءة أينما وجدت ليجرفها بعيدا..
و مرت الأيام ثم جاءت السيدة مرة أخري تروي إنها ذهبت لتخدم في منزل سيدة ثرية فعرضت عليها عرضا مجزيا بتسليمها لثري عربي توقعت أنها تكذب للمرة الثانية إلي أن اختفت .. و ظهرت شقيقتها منذ شهرين لتخبرني أنها ضبطت في شقة للدعارة .و تم تحرير محضر آداب و بمعجزة تمكنت الكنيسة أن توفر لها محاميا أخرجها بعد احتجاز دام عشرة أيام بين المسجلين الخطر و بنات الليل .
ولأن شقيقها مدمن مخدرات و زوجها أيضا .. تقاسما معا دور القواد في حياتها ..بيعت بأبخس الأثمان في سوق الحرام .. وبيعت مقابل السموم التي تشيطن أخاها وزوجها .. و رغم رفضهما للعلاج فترة طويلة .. إلا أنهما بعد القبض عليها انصاعا إلي نصيحة الأب الكاهن الذي يرعي الحالة و تم توفير مكان لهما في المصحة ..
جاءتني مؤخرا يصطحبها زوجها ووجهه لا يترفع عن النظر في الأرض لتقول: أنا بقيت كويسة و جوزي كويس .. هانرجع بلدنا .. أنا مش عايزة أقعد في البلد دي خلاص .. ماشفتش منها إلا الخراب والعذاب و الحرام .. كله في سوق الحرام بيتباع مش بس الشرف .. حتي أقرب الناس لينا باعوا صلة القرابة .. حتي نفسي هانت علي .. مش عايزة غير أني أرجع بلدي و علشان أرجع لازم أفرج عن العربية بتاعتنا موجودة في الجراج عليها إيجار مكسور 1200 جنيه .. ولازمها زيت وبنزين وهانروح نجدد الرخصة في بلدنا ونبدأ من جديد و يرجع جوزي ينقل بيها طلبيات و نعيش زي البني آدمين ..نأكل حلال و نعيش حلال بعد ما الحرام قطم وسطنا وذلنا .. الرخصة تكلفتها الف جنيه يعني المبلغ كله حوالي 3000 جنيه لو تقدري تساعدينا و دي هاتكون آخر مرة .. هاتشوفي ناس تانية خالص .. هانفرحك بينا و بالتغيير اللي هانكون عليه .. هانشرفك بعد ما خذلناكي .. بس ساعدينا .. لأننا لو مارجعناش بلدنا هانفضل هنا بدون شغل و الدايرة تتعاد كل مرة و استلف وأحاول أرد و الرد بيبقي تمنه غالي وأنتي عارفة أرجوكي مش عايزة حاجة غير أني أخد فرصة تانية.
رغم شكوكي في مدي صدق نيتها للاستقرار و الابتعاد عن الطريق الحرام إلا أنني لم أملك إلا أن أوافقها .. ووعدتها بالمساعدة فور تعاطف القراء مع حالتها .. ربما تكون الفرصة الأخيرة التي نمد أيادينا فيها لها .. ربما تكون الفرصة الأخيرة للآفاقة بعد غيبوبة طويلة دامت سنوات في تيه المدينة ..تاهت و تاهت أسرتها معها ..
ربما لو انتظروا في الصعيد في قريتهم الصغيرة ما طالهم سوء.. و ما جرفت الشياطين نبع البراءة في قلوبهم .. ولا انصاعت هي للسكك الحرام راضية .. بل كانت تشعر أنها تقوم بتضحية لأنها لا تعرف شيئا اخر في الحياة يمكنها ان تفعله لتجلب المال .. أو هكذا أقنعت نفسها .. لكن في النهاية لا يمكن أن نخذلها ..الله يعلم كم هي قاسية التجارب و يغفر مهما عاد المرء لخطيته .. هذا هو الله .. فكيف للبشر ألا يسامح و يعفو ويمد يد العون إن استطاع ..لكل من يقرأ اليوم قصة هذه السيدة .. لا تقسي قلبك .. أنت مسنود وقوي لأن الله لم يرفع يديه عنك .. بدون الله زاغ الجميع و فسدوا ..والخطية طرحت كثيرين جرحي وكل قتلاها أقوياء ..
داود النبي نفسه سقط في الكذب والقتل والزني.. ثم عاد وكتب مزامير التوبة والخلاص .. هكذا قال الكتاب .. فلا تستكثروا عليها التوبة ..
من منا بريء حتي النخاع ؟! من منا لم يزره الضعف محتالا عليه ليسرق مفاتيح نقاوته ؟! من منا عاش بلا سقطات يشتري الطهارة من سوق الحلال فلا نلومها ..لأن أكثر الناس قربا لها باعوها عارية في سوق الحرام .. وراحوا ينتشون بالثمن تحت نشوة المخدرات اللعينة .