يـُـعتبر د. على مبروك أحد المُـفكرين القليلين الذين انحازوا للغة العلم ، ولم ينخدعوا بأية عاطفة دينية أو أيديولوجيا سياسية أو حتى (فلسفية) وأعتقد أنّ مصدر هذا التوجه (العقلانى) هـو أنهم رفضوا أنْ يكونوا مجرد نـُـسخ كربونية من الثقافة السائدة ، ورفضوا أنْ يـُـختموا بخاتم هذه الثقافة ، وكان الراحل الجليل د. على مبروك أحد هؤلاء المُـفكرين المُـحترمين ، لذلك لم تكتشفه كاميرات الميديا المرئية ، أو- بصيغة أكثردقة – لم تسمع عنه. وعندما كنتُ أقرأ أى كتاب من كتبه ، كنتُ أتساءل : لماذا يظل – دائمًـا – المُـحترمون يع
ولأنّ د. مبروك رفض أنْ يمشى فى طابور الثقافة المصرية ، لذلك امتلك شجاعة الاختلاف مع د. حسن حنفى (واسع الانتشار) والمُـعترف به من الثقافة السائدة ، فيلتقط فقرة من كتاب د. حنفى (الدين والثورة فى مصر- ج6) التى قال فيها ((انتهى فجـرالنهضة العربية الحديثة ، ولم نر ضُـحاها أو ظهرها وحلّ ليلها بسرعة. وسادتْ روح المحافظة الدينية ، وكأنّ الصاروخ قد هبط إلى الأرض بمجرد أنْ ارتفع ، ولم يستطع خرق حُجب السماء إلى رحاب الفضاء ، فظهرتْ الأصولية الإسلامية على أنها الرصيد التاريخى الوحيد الباقى على مر العصور، حامى حمى الإسلام ضد الغرب)) وهذه الفقرة بصياغتها المُـخادعة المُـخاتلة (المُـرهقة فى قراءتها) قد تبدو للبعض أنّ د. حنفى (ضد الأصولية الإسلامية) ولكن قراءة د. مبروك كانت مُـختلفة فكتب ((ومن هنا بالذات – فى كلام د. حنفى – فإنّ إخفاق الثورة الوطنية ، وانحسار الموجة التقدمية ، وبروز الإسلام كقوة أكثر فعالية ، بدا لكثيرين أنه لا مستقبل لثورة أو نهضة من خارج الإسلام وتراثه الذى يشكل مخيال الأمة ومخزونها النفسى الذى لا يمكن القفز فوقه ، فبرزتْ ضرورة السعى لصياغة الإسلام كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية)) (الحداثة بين الباشا والجنرال – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان- عام2003- ص52) وأضاف أنّ العائق الذى ينطوى عليه مشروع د. حنفى يتمثــّـل فى تبنى استراتيجية التحول بالأبنية التراثية من دلالاتها القديمة إلى دلالات أكثر توافقا مع العصر، ولكن بدون تفكيك الدلالات القديمة ، بردها إلى السياق المعرفى والتاريخى الذى أنتجها ، فبدا القفز من دلالة أقدم إلى أخرى أحدث ، دون تأسيس لأى منهما فى جملة السياقات التى أنتجتها . وذلك هو (الثابت) الغالب فى مشروع د. حنفى الذى يتكشف عن ((حس نبوئى لا تاريخى . وذلك هو مأزق مشروع التراث والتجديد.. ولذلك فإنه لا ينبغى أنْ يدهش المرء حين يقرأ قى نص نحوى أو بلاغى أو تاريخى عبارات تكاد تكون ، بقاموس مفرداتها ، ترجيعـًـا حرفيـًـا لمثيلاتها فى علم أصول الدين)) (ص53، 54) ولأنّ د. حنفى كان أحد المُـدافعين عن المشروع العربى/ الإسلامى ، لذلك وصف أحد كتبه بأنه ((من جهد الأنا (المسلم)وإبداعه وليس من قيىء الآخر وإفرازه)) وفى الهامش كتب ((وذلك فى كتابات إشبلنجر، هوسرل ، برجسون ، توينبي وجارودى وغيرهم من الفلاسفة المُـعاصرين)) (مقدمة فى علم الاستغراب – ص22)
ويرى د. مبروك أنّ من معوقات الحداثة ، أنّ الذات العربية لا تملك خبرة التطور. وأنها ((عبثا توحد نفسها مع تاريخ الآخر انطلاقا من مجرد التزامن معه فى لحظة واحدة ، فتسلك مع الحداثة بعقلية البدوى الذى يرى (الحداثة) مجرد متاع يمكن نقله من سياق إلى آخر، تماما كما تنقل الخيمة فى الصحراء من وادٍ إلى آخر. وأنّ المنطقة العربية تسعى بإلحاح على استدعاء نموذج التقدم من خارجه : إما من السلف (رجوعا) أو من الغرب (صعودًا) وفى كل الأحوال عبر القفز والتنكر للتاريخ ،
وفى فصل آخر كتب د. مبروك أنّ الخطاب العربى المعاصر بأسره هو خطاب أصولى . وهى أصولية يارد منها كل تفكير ينطلق من أصل جاهز سابق ، بصرف النظر عن مصدره ، مع فرضه على الواقع بالقهر. ومن خلال سلطة مطلقة تمارس على الخطاب هيمنة شاملة ، لا يملك بإزائها الخطاب العربى إلا التكرار والاجترار (ص251) وفى
وكيف انقاد الحكام (والرعايا) لذلك الدستور، فعمرتْ بلادهم وكثرتْ معارفهم وتراكم غناهم وارتاحتْ قلوبهم ، فلا نسمع فيهم من يشكو ظلمًـا أبدًا. لأنّ العدل أساس العمران)) فكان تعقيب د. مبروك ((وإذن فإنها دولة العقل أو دولة الحداثة بالأحرى)) وأضاف : أما فكرة الدستور فى الخطاب العربى الحديث، فقد ظلّ مـُـنحصرًا ضمن حدود السياسة ، لا يتجاوزها إلى الأفق الأرحب للثقافة. وأنّ الثقافة لم تتطور على نحو يسمح بالاشتغال المنتج المفيد ، حيث أنّ الأمر فى الخطاب العربى لم يتجاوز- مع الدستور، وغيره- حدود السعى إلى استعارة المفهوم من الآخر (من السلف أو من أوروبا) وإدراجه ضمن بناء جامد ورتيب ، يتجاور فيه الشرعى مع المدنى ، والنقلى مع العقلى ، والتاريخى مع الأبدى ، وعلى نحو كان لابد أنْ يـُـقيـّـد المفهوم (العلمى للحداثة) ويكبح عملية إنتاجه. وبالتالى صار منفصلا ومعزولا عن السياق العام ومنغلقا على ذاته. ولا يعرف كيف ينفتح على غيره ويتفاعل معه. وأشار د. مبروك إلى ما كتبه طه حسين فى كتابه (فى الشعر الجاهلى) من أنه ((يجب ألا نتقيد بشىء ولانذعن لشىء)) وما كتبه فى (حديث الأربعاء) من أنّ ((قوام الحياة الصالحة لأمة من الأمم إنما هو التوازن الصحيح بين الاستقرار والتطور. فإذا تغلب عنصر الاستقرار فالأمة منحطة. وإذا تغلب عنصر التطور فالأمة ثائرة. والثورة عرَض والانحطاط عرَض ، كلاهما يزول ليقوم مقامه النظام المستقر على اعتدال هذيْن العنصريْن)) وكان تعقيب د. مبروك أنّ المشكلة – فى العالم العربى – تكمن فى أنّ ((النخبة التى حملتْ مهمازالنهضة كانت من صنع الدولة لا العكس)) (د. مبروك- مصدرسابق- من ص271- 278) هذا عرض لكتاب واحد من كتب د. مبروك العديدة ومن بينها (النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ) و(عن الإمامة والسياسة والخطاب التاريخى فى علم العقائد) و(ماوراء تأسيس الأصولية فى نزع أقنعة التقديس) وأتمنى أنْ تصدر كتبه فى مكتبة الأسرة ليقرأها الجيل الجديد.