أن التاريخ لم يتم إعادة هندسته وإنه فقط يعيد نفسه. فالدولة لجأت لنفس أساليب الخمسينات والستينات للتخلص من الخصم ألإخواني، ضربات قوية ومتتالية ولكن تعوزها المهارة، وتعوزها القوة الناعمة والأهم تعوزها السياسة! فالدولة لا تجد سوى الأساليب الأمنية، وهي كالعادة أساليب لديها قوة تدميرية مؤقتة ما تلبث أن ينتهي مفعولها بعد فترة، كما أن ضعف الدولة الواضح أمام ظروف سياسية واقتصادية وأمنية غير مستقرة لن يجعلها قادرة على محو الإخوان من التاريخ حتى لو أرادت لذلك وخططت له.
أن “أخطاء الإخوان” تمثلت في عدم قدرتهم على الحد من الاستقطاب السياسي الشديد، وفشلهم في إدارة المناورات السياسية، وأشار إلى أن بعض الأحداث كشفت أن المؤسسة العسكرية لم تكن في صفهم.
نحن أمام مرحلة انتقالية طويلة، سيستمر الإخوان الخسارة والنزيف فيها لفترة معتبرة قادمة، ولكن خواء المشهد من السياسة ومن المهارة ومن الحنكة، فضلا عن ظروف الإقليم والدولة غير المستقرة، وعدم وجود فاعل سياسي إسلامي آخر يملأ فراغ الإخوان الذي ستحتاج الدولة أن تملأه آجلا أو عاجلا، من شأنه أن يساهم في تغيير المعادلات مستقبلا، لا لأوضاع أفضل، ولكن لأوضاع مكررة تاريخيا لتستمر قواعد الجمهورية التي أسسها ناصر لفترة زمنية معتبرة لم يفقد الإخوان السلطة فقط ولكنهم خسروا سريعا الشرعيتين السياسية والقانونية، فتم إعلان الجماعة إرهابية لتتخطى بذلك مرحلة “المحظورة” التي كانت تميزها وقت مبارك، كما تم حل حزب الحرية والعدالة، بل وتعرض معظم قيادات الصف الأول فضلا عن الصفوف الوسطى إلى القتل أو الاعتقال
والمنع المستتر أحيانا والصريح في أحايين أخرى من ممارسة السياسة لم يفقد الإخوان فقط السلطة، ولكنهم فقدوا مقاعدهم وسط “الجماعة الوطنية” بحيث لم يعد يتم اعتبارهم، حتى بواسطة التيارات غير الإسلامية التي وقفت معترضة على فض رابعة وأصبحت معارضة للنظام السياسي الحالي، كحليف محتمل للعمل الوطني المعارض الآن أو مستقبلا
بعد خمس سنوات أيضا انكشف الخواء السياسي والفكري للجماعة، فالشعارات لم تترجم إلي سياسات، المشاريع المعلن عنها لم تكن سوى أوهام، وباستثناءات محدودة للغاية، لم تطرح الجماعة أي كفاءات تذكر سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، أو ثقافيا، فبدت الجماعة خلال الأشهر التي حكمت فيها مصر كجماعة متخمة بالموظفين يقودهم شيوخ خارج تاريخ وجغرافية مصر المعاصرة، وهكذا فقدت الجماعة أهم رهان افتراضي كان يداعب خيال العامة وكان يعطي الجماعة دائما فرصة افتراضية للتواجد المستقبلي
وقد بدأت العديد من القوى السياسية وشخصيات ليبرالية لها باع كبير في معارضة النظام السابق، بإظهار تخوفها من فوز مرسي، فضلا عن مؤسسات الإعلام الرسمية ودوائر في الدولة، بما فيها تلك القريبة من الجيش والأمن والاستخبارات، والتي انضمت إلى الترويج لشفيق والعمل ضد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، ومن هنا فلم ” يتردد عدد من الشخصيات الليبرالية الأخرى، مثل أسامة الغزالي حرب وسعد الدين إبراهيم، إضافة إلى حزب المصريين الأحرار الليبرالي، وعدد من قادة حزب الوفد، وحزب التجمع اليساري، في الإعلان الصريح عن تأييد شفيق. وقد اصطفت خلف شفيق كافة وسائل الإعلام الحكومية، وغالبية الصحف ومحطات التلفزة الخاصة.
بيد أن الدعم الأكبر لشفيق جاء من شبكة رجالات الحزب الوطني المنحل المنتشرة في أنحاء البلاد، ومن قطاع واسع من رجال الأعمال الأثرياء الذين عُرفوا بعلاقاتهم الوثيقة بالنظام السابق، وقد يكون من خيارات الجماعة أن تظهر بلبوس سياسي جديد، تحت مسمى آخر، وأن تكف عن إطلاق المظاهرات في الجامعات والميادين والشوارع الرئيسية من المدن، حيث أن هذه السياسة لم تأت بثمار، بل على العكس ألبت المعسكر الرافض لهيمنة وحكم الإخوان، وزادهم تمسكا بقرارهم في محاربة الجماعة، هذا فضلا عن تعطيل الحياة الاقتصادية والمساهمة في إطالة حالة للاستقرار والفوضى.
والناس تريد الآن التخلص من تركة الأعوام الماضية منذ عمر انتفاضة الشعب المصري ضد حكم حسني مبارك. وعليه فإن رهان الإخوان على “العصيان الشعبي” ضمن نطاق جمهورهم لن يساهم في تحقيق أي تقدم سياسي، أو دفع الجيش والقوى السياسية المتحالفة معه إلى تقديم أية تنازلات. كما ومن المستبعد أن يعيد النظام الحالي أو القادم، في المدى المنظور، وجراء توازنات داخلية وخارجية، النظر في قرار حظر جماعة الإخوان المسلمين ورفع صفة “الإرهاب” عنها. لذلك فإن وقف الجماعة للمظاهرات وأساليب التنديد وركونها إلى البناء من جديد في إطار سياسي مرن، يستفيد من الجوانب الإيجابية في تجربة الإسلام السياسي المنضبط في كل من تونس وتركيا، قد تكون إحدى الخيارات الأكثر قبولا.
ومن دوائر المؤسسة الأمنية المتمرسة بإدارة بالانتخابات، كما من دوائر الحكم المحلي، ذات الصلة المباشرة بالناخبين والدراية بالخريطة الاجتماعية التقليدية في المحافظات والمناطق الريفية. ولم يكن هناك ثمة شك في أن شفيق كان المرشح الأفضل لجهاز الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وقواعد النظام السابق، داخل جسم الدولة والحكم وخارجهما”ألا وهو افتراض “ما تيجي نجربهم ونديهم فرصة”!
الآن ورغم سوء الأوضاع وتعثر السلطة الحالية بوضوح، إلا أن المزاج الشعبي في تقديري لا يميل إلى إعطاء الإخوان هذه الفرصة مرة أخرى ومن هنا تأكد لدى كل من يترصدهم ويتابع أخطائهم، بأن الإخوان والجماعة تتابع الخطى في اتجاه طريق السيطرة على الحكم والبدء بإغراق المؤسسات بالكوادر الإخوانية
وكانت الانتهازية في أعلى مراتبها، فهي فرصة كبيرة أتيحت لجماعة الإخوان من أجل الثأر للماضي والقبض على السلطة بيد من حديد، معتمدين على الشرعية الشعبية التي نالوها، مهملين كل الفواعل الأخرى، ومن هنا لم يفهم الإخوان بان ” عقد إدارة الدولة ليس بعقد ملكية، فهو لا يجيز استبدال جهاز الخدمة المدنية الاحترافي غير التابع سياسيا لحزب أو تيار بعناصر إخوانية تكرر من جديد تجربة مصر في الستينيات وما بعدها عندما تحولت مؤسسات الدولة إلى تشكيلات تابعة للحزب الحاكم تعمل لخدمة الحاكم لا المحكوم
وعلى المستوى الداخلي لجماعة الإخوان، ظهرت بعض الآراء التي تقول بأن كل القوى السياسية ومراكز القوى والمفاعيل المهمة قد رضي بحكم الإخوان، وان الثمن قد يبدو هينا، مهما كان، قياسا بالسيطرة الطويلة على البلاد وتمكن الإخوان من أسلمه الدولة وتطبيق الشريعة، وتبلوّرت بعض الآراء الإسلامية حول هذه النقطة، ومن هنا فقد كان ” وصول الإسلاميين لأعلى المناصب حتى صار الرئيس منهم بعد أن كانوا مبعدين عن أن يضعوا أقدامهم على أول درجة في سلم المناصب المؤثرة، فلم يكن مسموحا أبدا أن يكون منهم مديرا لهيئة، أو عميدا لكلية، أو وكيلا لوزارة وسلك القضاء كاملا، والجيش والشرطة وغير ذلك، وهذه خطوة عظيمة نحو التمكين لدين الله وتغيير الأنظمة المعادية للإسلام، فأي ثمن يدفع لتحقيق هذا الأمر لا يكون غاليا
وفي استشراف المستقبل يمكن للمرء أن يترقب ردود فعل عنيفة من الجماعة على سياسة الإقصاء هذه، فالجماعة مازالت قواعدها وجماهيرها موجودة، وهي تتلقى الدعم من بعض الدول الخليجية، وتابعة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وعليه فسوف لن تسكت عن سياسة تصفيتها من قبل الجيش والقوى السياسية المتحالفة معه، ومن هنا يمكن القول ” أن العنف المسلح قد ينتشر على نطاق واسع، لا يستطيع النظام التحكم فيه
وهناك ثمة مسوغات من الإحباط والمظلومة قد تؤسس لوجود حاضنة شعبية لهذا العنف، يصعب الآن تقدير حجمها. في مثل هذه الحالة، سيتسع نطاق المواجهة، ويسهم تصاعد العنف في إضافة مزيد من الحطب إلى النار. ليس من الضروري التوكيد على أن نهج العمل المسلح، مهما اتسع نطاقًا، لن يستطيع الإطاحة بنظام حكم يمسك بمقاليد الدولة، ولكن من الصعب أيضًا أن تستطيع الدولة إيقاع هزيمة سريعة وحاسمة بعنف مسلح ذي طابع شعبي واسع، ولا يقتصر على تنظيم معزول. وقد تؤدي صعوبة تحقيق الهدفين إلى حقبة طويلة، مؤلمة، وباهظة التكاليف من العنف وفقدان الأمن”