❖ يعلم كل من درس في علم البلاغة أنه حيث وردت كلمة ” أنا ” على فم المتكلم فهو يفخر بنفسه أو بعشيرته أو بإنجازاته .. ولكن على العكس تماماً ..
فمن يدرك كلمة أنا في كتابات بولس الرسول يدرك تماماً، أن بولس (الرسول) يحطم هذه القاعدة تحطيماً !! وأنه حيثما وردت كلمة ” أنا ” في كتاباته فهي للأتضاع وليست للفخر ولا للكبرياء.
❖ فبعد أن جاب كل تلك البلدان، وفي نهاية حياته، باعتباره كارزاً ومبشراً يقول : ” صادقة هذه الكلمة ومستحقة كل قبل أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا ( ت 1 :15).
• أبعد كل تلك الخدمة أيها الجبار !! ترى في نفسك أول الخطاة ؟!
• أبعد كل ما كرست كل ذلك الوقت والجهد والعمر !! تري نفسك أول الخطاة ؟!
• أبعد ما جلدت خمس مرات، وضرُبت بالعصى ثلاث مرات، وأنكسرت بك السفينة أربع مرات، ورُجمت حتى الموت !! ما زلت ترى في نفسك أول الخطاة ؟!!
• فماذا نكون نحن إذن أيها الرسول العظيم ؟ … أنكون أول الأبرار ؟!!
❖ ومن جهة أخرى فقد كان هذا العملاق العظيم يدرك ” التواضع ” على حقيقته دون اصطناع يستدر به مديح الناس ودون أن يكون اتضاعه صغر نفس يجعله يتقاعس عن الخدمة والتبشير، ودون إنكار لعطايا الله ووزناته التي وهبها له كي يستثمرها لمجد اسمه فيقول عن نفسه : أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ… الذي في أجيال أخر لم يعرف به بني البشر … أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ. الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ. لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، ( أف 3 : 3 – 8 ).
❖ ويقول لأهل روميه الذين أرسل ليهم رسالته قبل أن يراهم : ” لأَنِّي مُشْتَاقٌ أَنْ أَرَاكُمْ، لِكَيْ أَمْنَحَكُمْ هِبَةً رُوحِيَّةً لِثَبَاتِكُمْ ” ( رو 1 : 11 ).
❖ ولأن دور النعمة والجهاد واضحاً في منهج بولس الرسول فهو يفي كل منها قدره، فيقول بتواضع غير مصطنع عن نعمة الله التي افتقدته وما زالت تعمل فيه “ وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ” الجنين الذي لم يكتمل “ ظَهَرَ لِي أَنَا أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ. وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي. (1كو 15 : 8 – 10).
❖ وهو يدرك أن هذه النعمة هي الكنز الثمين الذي لا يجوز التقليل من قدره أو تحقيره، حتى إذا كان في آنية خزفية متواضعة ” وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا ” (2كو 4 : 7).
❖ ولئلا يهمل أحد دون الجهاد في الحياة الروحية يعود بولس الرسول فيؤكد على أهميته: بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا. واضعاً نصب عينيه أن يستمر في جهاده حتى آخر أيامه.
وإن كان بولس الرسول في شيخوخته يشعر بثمر الجهـاد والنعمة في حياتـه فيقول: ” وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا “. (2 كو 4 : 16).
❖ ومن أجل نجاح خدمته وباتضاع حقيقي – يطلب صلوات المؤمنين كي يرسل الله كلمته على لسانه فيقول : ” مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ، الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.( أف 6 : 18 – 20).
❖ إن تواضع بولس لا يتنافي مع طموحه غير المحدود في الخدمة فهو لم يقف لحظة وينظر إلي الوراء ويعدد انجازاته أو يفخر بها بل بالعكس ينظر دائماً إلى الخدمات التي لم يقم بها بعد، وإلى البلاد التي لم يزُرها بعد !!
لذا تجـد بولس الرسول يقول بعد ثلاث رحلات تبشيرية وأثنـاء سجنه الأول في روما “أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا
إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّام” ُ. (فيلبي 3 : 13)
يقول هذا وهو الذي جاب شمال حوض البحر المتوسط كله طولاً وعرضاً ولو امتد به العمر (استشهد وهو عنده 64 عاماً ) لغطي المسكونة كلها بكرازته وبشارته.
❖ وعندما يريد بولس الرسول أن يعطي قدوة للشعب، فإنه لا يفكر في نفسه بل في السيد المسيح، القدوة الوحيدة التي بلا عثرة، ولكن كيف يقتدون بمن لا يرونه؟.
لذا يلخص رأيه في كلمات موجزة “كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ“. (1كو 11: 1).
❖ وعندما يتحدث عن مصدر قوته، في الكرازة فهو يعطي كل المجد لصاحب المجد فيقول: وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ الْكَلاَمِ أَوِ الْحِكْمَةِ مُنَادِيًا لَكُمْ بِشَهَادَةِ اللهِ لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا. وَأَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ، وَخَوْفٍ، وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ. (2كو 1 : 5).
❖ ويطرح ما تعرض له من اضطهاد فيقول: “لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ“. (2كو 12: 10)