في مساء عادي ، كانت سحب الغباء تزدحم في سموات المدينة الخاوية من أى نسمة هواء تنعش الصدور المحبطة، بينما يجلس هناك في غرفته يركن ظهره إلى الحائط ، يحصى الساعات المتبقية لظهور فجر طال انتظاره، يرجو شعاع نور يضئ له الطريق وسط ظلمات الحى النائم على فراش القلق.
تمنى لو وقف ولو لبعض الوقت أمام تلك الكراهية التي تكتلت لتتخذ شكل إنسان مكتمل الملامح ولكن بالطبع بلا قلب، تمنى لو طلب منه أن ينساه ، أن يتذكر فقط أنه مثله تماما لديه طفلة تحبو إليه، تمسك بيدها الصغيرة ملابسه لحظة عودته إلى المنزل ، هى الآن تنطق فقط بعض الكلمات وتبتسم، تفرح بحملها ورفعها في الهواء، مؤخرا التقط بعض الصور لتعزيز الذاكرة ضد تقلبات الزمن.
تمنى لو أدرك للحظة بؤس زوجته المنتظرة عودته يوميا ، ليحكي لها كل ما دار في يومه وأحوال أصدقائه وشكواه التى لا تنتهى من صعوبات الطريق والناس، وكيف لتلك الكائنة الرقيقة وابنتها أن تحتملا غياب رجلهما بقية أيام حياتها المقبلة.
ذات مرة قال لي “لو قابلته ، سأخبره عن أمي وفقط ، وبقية الحكايات متشابهة”، الله خلق قلبا واحدا لجميع الأمهات ووزعه في أجساد مختلفة، هى حتما ستبكي تماما مثل أمه إذا بكت حين يحل موعد رحيله في أى وقت.
سيذكره بأنه كان طفلا مثله، لديه بعض الأحلام أو قريبة منها ، تشاجر مع زملائه في أوقات عديدة ليجمعهم الليل حول سور المدرسة القديمة ليصطادوا العصافير النائمة في حضن الشجر، سيحكى له حكاية طائرته الورقية التى كانت تعلو في سماء الحى حينما كانت للحى سماء منظورة قبل أن تتحالف المباني الاسمنتية لإخفائها عن العيون.
سيخبره، وربما للمرة الأخيرة عن خشيته أن الكراهية التي تأكل صدره ستدفعه حتما للقتل، وسيذكره أن هابيل قتل بفعل الغيظ وأن دمه كان يصرخ في الأرض.. الأمر المؤكد الذى سيقوله ليمضى أو يسقط صريعا .. يا سيدي الأرض لا تشبع أبدا من طعم الدم .. دمى ودمك .
سامح ينى