نموذج عملي للتسامح والوحدة الوطنية
” أمدح فى البتول وأشرح عنها وأقول أنت أصل الأصول يا جوهر مكنون” ، لقطة عبقرية فكرة أن يبنى مسجد يحمل اسم السيدة العذراء مريم يكون فى المنيا أحدى محافظات الصعيد بكل ما فيها من تطرف وتعصب وعنف طائفى ومعارضة لبناء كنيسة هنا وهناك ، عبقرية التسمية أن تجد اسماء تختص بها الكنائس وحدها على مساجد ، نموذج عمليا للتسامح والوحدة الوطنية وتأكيدا على مقولة “الدين لله والوطن للجميع” ، لا يهمنا من هو صاحب الفكرة وما هدفه ، ما يهمنا أن الفكرة ترسيخ للمحبة والسلام ونبذ العنف والكراهية ، فكرة تعود بنا الى الزمن الجميل أيام صعود القمص سرجيوس منبر الجامع الأزهر ، وحسبما صرح صاحب الفكرة الدكتور وجدى النجدى أن الإسلام يحتفى بكل الرسل والأنبياء ولا يعرف التعصب ، لقد جاءت العائلة المقدسة الى مصر ومكثت فى المنيا ، والسيدة العذراء مريم كرمها القرآن الكريم بسورة كاملة تحمل اسمها…
لم يكن مألوفا أن يشيد مسجد باسم السيدة العذراء ، للمرة الأولى يطلق اسم السيدة العذراء مريم على مسجد وهو الاسم الذى يطلق على معظم الكنائس المسيحية بكافة ربوع محافظة المنيا على وجه التحديد التى يقطنها نسبة كبيرة من المسيحيين وهو ما جعل الدهشة تنتاب اهالى المنيا فى البداية عندما وجدوا لافتة مكتوب عليها مسجد السيدة العذراء مريم ، تشتهر المنيا بأنها عروس الصعيد وقد تطور اسم المنيا من الكلمة الهيروغليفية منعت وهو مختصر من الاسم القديم منعت خوفو ومعناه مدينة مرضعة الملك خوفو ثم تطور الاسم الى مونى بالقبطية وتعنى المنزل ومنه جاء الاسم الحالى المنيا .
وقد لاقت الفكرة معارضة فى بدايتها ثم استحسنها الناس بعد ذلك ، و المسجد تحفة معمارية وفنية تقع بمنطقة أبو فيليو على ضفاف النيل شرق محافظة المنيا على مساحة 800 متر وبتكلفة 15 مليون جنيه ويضم المسجد مستشفى خيريا لخدمة اهالى المنيا وقد تم الانتهاء من أعمال البناء والتشطيبات وفى انتظار الافتتاح بداية العام الجديد ، ويذكر أن اعمال البناء والإنشاءات بالمسجد بدأت منذ عام ونال اسم السيدة العذراء اعجاب الجميع وقد دعا الى الفكرة الدكتور وجدى النجدى القائم على بناء المسجد والذى قام بدعوة قيادات ورموز من الأزهر والكنيسة لحضور حفل الافتتاح بداية العام الجديد بحضور اللواء صلاح الدين زيادة محافظ المنيا ، ويتكون المسجد من ثلاثة طوابق وبه ثلاث قباب ومئذنة ويضم ساحة صلاة كبيرة ودارا لتحفيظ القرآن الكريم ومركزا طبيا ووحدة عناية مركزة وحضانات اطفال ومعامل تحاليل وأشعة لخدمة المواطنيين مسلمين ومسيحيين .
ويذكر أن أول مسجد يحمل اسم السيدة العذراء فى الوطن العربى والعالم الاسلامى حسب ما ذكرته وكالة الأنباء السورية “سانا” تم افتتاحه فى طرطوس غرب سوريا فى يونيو الماضى فى الوقت الذى فيه سوريا للتكفير والقتل والإرهاب وتدمير المساجد والأضرحة والمقامات وجاء الهدف من بناء المسجد بهذا الأسم الى بناء الساجد ذاته وتعليمه الاسلام بثوابته الصحيحة بعيدا عن انحرافات البشر وتطرفهم وتكفيرهم .
و حتى لا يفوتنا واحقاقا للحق منذ عدة سنوات كانت هناك دعوة الى فكرة بناء مسجد يحمل بالفعل اسم السيدة العذراء مريم ، حيث دعى المهندس محمد عبد المنعم الصاوى مدير “ساقية الصاوى” فى مقاله بجريدة المصرى اليوم فى عدد الخميس 26 أغسطس 2010 الى إنشاء مسجد باسم السيدة العذراء وأن يكون المسجد شديد الجمال والوقار تفوح منه أطيب الروائح وتحمل جدرانه الآيات لسورة مريم حيث تمثل العذراء مريم نقطة التقاء روحانية لكل المصريين مكانتها توحد القلوب وتضنها بنور نحتاجه فى هذه الأيام لمعالجة الظلام الفكرى الذى ننشغل عنه بظلام الشوارع وطالب الصاوى القراء من المسلمين والمسيحيين من يزعجه هذا الطرح الغريب ألا يسيئوا الظن به ، وأن مسجد السيدة العذراء سيصبح شاهدا على التزام المسلمين بالإيمان بكل الرسل والأنبياء داعيا المسيحيين والمسلمين الى الاتفاق على توحيد الجهود لإنقاذ الأمة من الهلاك ، واكد الصاوى أن حرية العقيدة هى الاساس التى بنيت عليه كل الحريات وكم هو خطير أن يتصور طفل مسلم أن المسيحيين لا تحكمهم نفس الفضائل التى أمر الله بها المسلمين أو يتصور طفل مسيحى أن المسلمين قساة القلوب يميلون الى العنف والإرهاب ففى هذا المناخ تنمو حساسيات وتنفجر مشاعر سلبية تباعد بين طرفى ارتكاز الأمة.
قال فضيلة الشيخ محمد عبد الله نصر من شيوخ الأزهر: “اطلاق اسم السيدة مريم على المسجد ما هو إلا إيمان بما جاء فى القرآن الكريم من آيات تجمع ولا تفرق بين الناس ، والسيدة مريم كرمها الله تعالى فى القرآن الكريم هى والسيد المسيح معظمين لهم كل التقدير والاحترام ، وحتى على مستوى اسم مريم أو عيسى لا نستطيع أن نفرق بين مسلم ومسيحى ، فمصر هى بلد الأديان يختلف فيها المصريين أيا كانت ديانتهم عن باقى شعوب العالم.”
يستكمل فضيلة الشيخ قائلا: “القضية ليست فى بناء مسجد أو كنيسة القضية أعمق من ذلك فنحن نعانى من التعصب والتطرف فمازالت هناك افكار راسخة فى الأذهان عن الآخر باعتباره كافر وينتظر فتاوى فى كيفية التعامل معه ، لابد أن يبدأ التغيير من داخل المؤسسات الرسمية التعليمية ولنبدأ بالأزهر وتطوير المناهج الفقهية فهى بحاجة الى التجديد ، لابد أن تعلو فكرة الوطن فوق الدين أن يعود زمن القمص سرجيوس الذى خطب على منبر جامع الأزهر قائلا ” إذا كان الأقباط سيكونون سبب فى تقسيم مصر فليذهب الأقباط الى الجحيم وتبقى مصر” ، نحن نريد دولة جديدة وخطاب دينى يدعو الى المحبة والسلام عن طريق مناهج تعليمية وثقافة مجتمعية.”
من جانبه قال القس برسوم كاهن كنيسة السيدة العذراء والملاك بعزبة صادق المنيا: “مهم جدا وسط ما نشهده من أفكار متشددة أن نجد أرضية لنبذ ومحاربة تلك الأفكار، وأمر جيد أن يبنى مسجد يحمل اسم السيدة العذراء التى لها عظمتها وتقديرها من الجميع وهذا من شأنه أن يقرب المسافات بين الاقباط والمسلمين فى ظل محاولات اصحاب الفكر المتطرف ودعاة الفتنة لبث افكارهم فى المجتمع ، فعلى الجميع التقارب والتوحد لمكافحة التطرف والإرهاب والعمل على ترسيخ قيم المواطنة خاصة فى عقول أطفالنا وعندما يشاهدون مسجد يحمل اسم العذراء يدركون أن هناك قواسم مشتركة بين أبناء الوطن مسلمين ومسيحيين ، ومن جانبنا نحاول من خلال بيت العائلة أن نرسخ هذا الفكر ونذهب كلا منا القسيس مع الشيخ يتفقد أهالى القرية من أجل الحوار والتعايش السلمى مركزين على الاطفال فهم عماد المستقبل يجب حمايتهم من الافكار الهدامة وارساء مبادىء التسامح وقبول الآخر .
من ناحية أخرى قال الدكتور منير مجاهد منسق مجموعة مصريون ضد التمييز الدينى: “ليس غريبا ان يحمل مسجدا اسم السيدة العذراء فهناك سورة كاملة فى القرآن باسم مريم ، ويعتبر لافتة جيدة هذه التسمية فكلما اوجدنا قواسم مشتركة بين كل المصريين كلما كان الامر فى صالح البلد ، ولكن من ناحية تأثيره على محاربة التطرف والتعصب الدينى أرى أن تأثيره محدود نحن نحتاج الى جهد أكبر فى التعليم والاعلام والثقافة ولابد أن يصاحب هذا أنشطة أخرى يدعو إليها المحافظ تدعو الى روح التسامح والقيم الوطنية أفضل من الاشياء الشكلية ، لكن فى نفس الوقت هذه التسمية بادرة أمل وأن تكون خطوة لتحقيق ما نأمله.”