مع بداية كل عام.. ندرك مدى عمق مجئ الرب يسوع على الأرض بمولد المسيح له المجد.. ليخلص العالم من خطيئة آدم.. ويسمو بالبشر نحو السلام والمحبة.. والانسان في العالم كله.. كم هو في حاجة للسلام، ذلك السلام الذي ترنمت به الملائكة تبشر بميلاد المسيح “المجد الله في الأعالى.. وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة”.وسط نور سماوي صادر من نجم كبير.. دلالة علي أن المولود ملكاً.. ملك الوجود.. جاء من الروح القدس.. أعلنها الله للبشرية بحلول ابنه الكلمة بالتجسد. والانسان في عالمنا المعاصر.. مثقل بالأحداث والصراعات المادية.. كما يواجه الحروب ويحوى بؤر الإرهاب.. ويمزقه الرعب الذي يشيع في كل مكان.. وهناك العديد من البلدان تؤرقها ظاهرة الأرهاب والعنف .. ومع ميلاد عام ٢٠١٦ كم تهفوا قلوبنا إلى ذلك السلام الذي أصبح العالم كله أكثر أحتياجاً وإلحاحاً إلى تلك المسرة التي تبعثها المحبة.
وفي عيد السلام والحب نقدم رؤية تاريخية وفنية لأيقونة الميلاد.. وسماتها الخاصة التي تميزت بالرمز.. الذي يدل علي معان روحية ودينية.. وأستلهم الفن في العالم كله من قدرة الله.. وكانت قصة الخلق وحياة المسيح منذ بشارة الملاك للسيدة العذراء مريم حتي صعود المسيح إلى السماء.لقد كانت الأيقونة ترسم في القرن الأول في بعدين فقط مثلما كانت الرسوم البدائية الفرعونية، كما كان للألوان والخامات المختلفة قيمة فنية.. خاصة في تقدير الرموز وإظهار معانيها وتلك الرموز إتخذها الفنانون وسيلة من وسائل التعبير عن خلجات النفس لإبداعاتهم الفنية.. وإيمانه بالرسم والنقش والتصوير.والفن القبطي يعكس بصدق الحياة على مر العصور.. وهو حلقة من حلقات الفن المصري منذ البداية.. دليل ذلك ثبات الشخصية المصرية في مواجهة الديانة الوثنية.. وكان الفنان القبطي يرسم بالطريقة التي ورثها من الفن الفرعوني.. مروراً بالفن اليوناني الروماني.. وهي طريقة الرسم بأكاسيد الألوان على الحوائط المغطاة من الجير أو الجبس وبعض مواد البناء.. أى طريقة “الفرسك”.
ويعتبر ما عثر عليه من الأيقونات واللوحات الجصية التي كانت تغطي جدران الكنائس في القرون الأولي للميلاد.. أرقى ما بلغه في هذه الحقبة من التاريخ.. بل هو المنطلق الذي استمد منه فن الأيقونة فيما بعد.. ليزدهر في أوروبا وكل بلاد العالم.وعندما تهشمت وإنهارت معظم طبقة الألوان المرسومة بطريقة الأكاسيد والألوان المائية التي زينت بها جدران الكنائس والأديرة، لجأ الفنانون إلى ممارسة الرسوم القبطية على ألواح من الخشب.. بعد معالجتها بمواد لونية مختلفة أبقى وأخلد.. كالرسم بطريقة التمبرا أو الفسيفساء “قطع ملونة من مواد صلبة”.. وأيضاً لسهولة نقلها من مكان لآخر.. لهذا أراد الفنان أن تكون لوحاته شاهدة على عبقرية ما أبدع.. ومثال ذلك ما عثر عليه من إبداعات في مدرسة الفيوم لبعض الوجوه التي رسمت على التوابيت “وجوه الفيوم”.. وأيضاً أيقونات مرسومة للقديسين والقديسات في الأديرة والكنائس.. وهي أعظم وأروع ما رسم لفن الوجوه في العالم.ولاتزال هذه الإبداعات الفنية والأيقونات القبطية محل إبهار من الناحية التاريخية والفنية حتى الآن.. حيث أهتم الفنانون بالأحداث الدينية والتعبير عن معجزات الكتاب المقدس.. لدرجة أن بعض هذه النقوش والأيقونات.. تعتبر صلوات بسيطة.. فأثروا تراث الإنسانية جميعها عبر العصور.
رسمت أول أيقونة في العالم بريشة القديس لوقا الأنجيلي.. حيث رسم لوحتين الأولي في كنيسة العذراء مريم بأسيوط.. ويرجع تاريخها للقرن الأول الميلادي.. وفيها رسم القديسة العذراء مريم تحمل الرب يسوع علي يسارها.. ورسم اللوحة الثانية في كنيسة القيامة بالقدس.فن الأيقونة ذو تقاليد نابعة من الكنيسة القبطية وطقوسها الراسخة في نفوسنا إلى الأبد، والتي نراها ونعيش فيها.
والأيقونات التي رسمت للقديسة العذراء مريم منذ البشارة ورحلتها مع يسوع المسيح وميلاده العجيب الذي نحتفل بذكراه مع ميلاد كل عام.. تحكي أحداث حياة القديسة مريم عندما جاءها الملاك ليبشرها بميلاد يسوع.. ممثلة في أيقونة “البشارة” ثم “أيقونة الميلاد” جاء فيها الرعاة إلى بيت لحم عندما أخبرهم الملاك بميلاد المسيح.. وموضوع الأيقونة من المناظر المحببة لدي الفنان القبطي علي مر العصور.. التي نجدها علي جدران وكنائس وأديرة مصر من إبداعات بعض الرهبان.. نجد منها في دير السريان والأنبا مقار.. والبراموس في وادي النطرون.. وفي كنائس القديسة العذراء مريم بالمعادي والكنيسة المعلقة وابى سرجة بمصر القديمة.. كما نقشت مناظر الميلاد علي العديد من المباخر المعدنية وأيضاً في النسيج القبطي.
و”أيقونة المجوس” الذين أرشدهم نجم من السماء إلى حيث ولد يسوع وأتي إلى العالم نورا وضاحاً.. لينظروا الأمر الواقع الذي أعلمهم به الرب.. ويضئ وجوه كل من إجتمع حوله.. “أنه أبرع جمالاً من بني البشر”.. نرى فيها المجوس ساجدين تمجيداً لمعجزة السماء.. كما نلمس فيها التعبيرات التي أرتسمت علي وجوه كل المحيطين بالمولود.. نراها ونحس بها إحساساً بالغ العمق من خلال إبتسامة القديس يوسف النجار.. وكل الوجوه الهَلِعَة المحيطة بالعذراء والطقل يسوع.. يتسرب منه نور يلمس وجوه تلك الشخصيات وأطرافها لمساً رقيقاً يختلف في نوعه عن أى شعاع نوراً آخر.. وطوبي لمن نظر إليه وأستنار لأنه لا يخزي.. كما نجد في الأيقونة رموزاً كثيرة يحار في تفسيرها الكثيرون.. ممثلة في الهدايا التي قدمت للطفل يسوع المسيح من المجوس وهي.. ذهب ولبان ومر ترمز في دلالتها إلى الصفات التي تكمن في الرب يسوع، فالذهب رمزاً “لملك الملوك”.. واللبان رمزاً “لللاهوت” والمر دلالة علي عذابات والآم السيد المسيح الذي جاء من الروح القدس لينقذ العالم من خطيئة آدم.. بالفداء والصلب.. ويمنح محبيه تاجاً سماوياً.. وحياة أبدية.
ونلمس أيضاً فى أيقونة الميلاد التكوين المحكم.. حيث شفافية اللون.. ومرونة الشكل وتنوعه.. وديناميكيته.. فالخطوط الرئيسية تتجه كلها إلى النور الذي يتوسط الأيقونة ويمثلها يسوع المسيح والعذراء مريم أم النور ذات الجمال القدسي.. رمزاً للنقاء والطهر والقداسة وهنا يعبر الفنان في لحظة درامية هي لحظة السجود لملك الملوك.. والمجوس يتطلعون إليه طالبين منه البركة والنعمة في حياتهم.وأصبحت الأيقونات تمثل رموزاً معينة ومفاهيم دينية.. أضفت علي إبداعات الفنانيين غلالة من الروحانية.. وهكذا كان كل فنان يرسم العذراء مريم والسيد المسيح بالصورة التي يتخيلها.. وأن تكون ملامح الوجه أقرب إلى ملامح كل بلد ينتمي إليه الفنان.. ولكن الظاهرة التى أجمع عليها جميع الفنانيين من الشرق والغرب أو من أفريقيا هي صفة القداسة والبراءة التي نشاهدها علي وجه المسيح والعذراء مريم.
وتتوالى المدارس الفنية بعد ذلك من عصر النهضة حتى عصرنا هذا.. وما أبدعه الفن القبطى يؤكد لنا أنه إلهام للإشعاع الروحي والفكرى والفني.. والفن القبطي خلال القرون الأخيرة ترك تراثاً يعتز به الجميع، فنجد الفنان القبطي قد أتجه لرسم وتصوير القديسين تذكاراً لما قاموا به من أعمال مجيدة وتخليداً لإستشهادهم في سبيل الإيمان المقدس.. مضحين بأغلي ما عندهم من دماء ذكية في سبيل نشر المسيحية والإيمان الصحيح ونوال أكاليل الحياة الأبدية.. وأستطاع الفنانون أن يسجلوا ملامح القديسين وسماتهم المميزة حتى أن الناظر يستطيع التعرف علي أصحابها.ومن الفنانيين الذين أبدعوا الأيقونات في مصر الرسامان يوحنا الأرمني وإبراهيم الكاتب، كما نجد أيقونات في كنائسنا القديمة بمصر من أعمال رسام الأيقونات اليوناني أنسطاسي الرومي وغيره من أمهر الفنانين الأقباط.
ومع بداية صحوة الفن القبطي في مصر.. أبدع روادنا الأوائل نماذج رائعة من هذا الفن نخص منهم بالذكر الفنان حبيب جورجي، راغب عياد، مرجريت نخلة، المثال منصور فرج، وغيرهم من جيل الفنانين المعاصرين.. ومنذ إنشاء معهد الدراسات القبطية.. بدأ الفن القبطي ينشط مرة أخرى على أيدي مجموعة من فناني رواد الأيقونة القبطية.. منهم إيزاك فانوس، بدور لطيف، يوسف نصيف، وبعدهم جيل الشباب منهم يوسف جرجس عياد وعادل نصيف.. وجرجس لطفي ومجدي وليم وفيكتور فاخورى ومجدي ميخائيل وسميره لمعي وغيرهم من فناني الأيقونة القبطية.. وتبعه جيل حملوا بعدهم هذه الأمانة.. إيماناً منهم بأستمرارية الرسالة والهدف.. وآخرهم مجموعة الفنانين الشباب الذين كان لهم الشرف أن يقوموا بابداعاتهم القبطية للكاتدرائية المرقسية.. حتي يراها رواد الكنيسة مع إحتفالها بمرور50عاما على افتتاحها.
حقاً أن تلك الإبداعات الفنية والأيقونات الصادقة تحمل بين طياتها روحانيات المحبة والسلام.. ليشرق نورك يارب على البشر في كل بلاد العالم.. كما أشرق على كل من كان في مزودك الوديع.. وليفرح كل قلب في عيد الميلاد المجيد.. ويبتهج كل حزين حتي يعم السلام والمحبة.