شهد النظام العالمى انعطافات هامة على مدى الربع قرن الأخير. وعلى الرغم من قصر المدة إلا أن التحولات جاء سريعة وغير متوقعة. فقد بدا العالم مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات عقب إنهيار الاتحاد السوفياتى ونهاية الحرب الباردة وكأنه بصدد خلق نظام مستقر حتى ولو فى ظل هيمنة القطب الواح، كما أن اللغة التى سادت آنذاك هى لغة مشرقة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى. وبالفعل فمن يلاحظ أنه مباشرة وعقب إنهيار الاتحاد السوفياتى بدا المجتمع الدولى نشطا ومشجعا على ظهور قوى المجتمع المدنى الجديدة. ويكفى للتدليل على ذلك ذكر مؤتمرات الأمم المتحدة خلال عقد التسعينيات. فقد شهد هذا العقد زخما دوليا غير مسبوق فى مجالات التنمية والبيئة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، وكل هذا فى سياق حضور غير مسبوق تاريخيا لمنظمات المجتمع المدنى الناشئة.
ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال مع بداية الألفية، حيث بدأته الأمم المتحدة بأكثر مؤتمراتها إثارة للجدل وهو المؤتمر العالمى ضد العنصرية، ليكون آخر نشاطات الأمم المتحدة البارزة. وما أن انتهى المؤتمر حتى وقعت أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى الولايات المتحدة. وهنا أصبح شكل النظام العالمى والعلاقات الدولية مختلفا، فمع الحرب على الإرهاب ارتدى النظام العالمى عباءة الثقافة، وأصبح الصراع يستخدم لغة الحضارة.. ولأسباب ثقافية وسياسية أصبح الإسلام هو مسرح الأحداث. وفى الحقيقة أن الإسلام الذى كان ملتبسا أصلا فى الفكر الاستشراقى الغربى، أصبح أكثر إلتباسا فهو خليط من الثقافة والسياسة والجغرافيا والدول والجماعات، وهو فى فى المحصلة حاضنة الإرهاب. وبشكل متواتر أصبحت منطقة الشرق الأوسط بؤرة الصراع الدولى، وساحة حروب لأسباب معلومة وأخرى غير معلومة.
وبحلول ما يسمى “الربيع العربى” أخذت العلاقات الدولية شكلا أكثر فجاجة، فقد تراجعت بشكل ملحوظ لغة التنمية وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى، وكذلك لغة الثقافة والحضارة، ليتبقى الإرهاب بوصفة البؤرة النشطة فى مركز العلاقات الدولية على الأقل فى منطقة الشرق الأوسط. صحيح أن هناك كلام عن أهداف إنمائية قبل 2015 وبعدها، ولكن هذه اللغة تظهر على استحياء فى العلاقات الدولية. كما أن نموذج الإرهاب القديم ممثلا فى تنظيم القاعدة الذى كان مناسبا لمرحلة صراع الحضارات وحوارتها، لم يعد صالحا للتوظيف والاستخدام فى مرحلة جديدة تتطلب إلى ترتيبات أخرى ميدانية وغير ثقافية بالضرورة، وهكذا أصبح النموذج الجديد هو تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لأنه لا يعبر عن شئ سوى العنف، وهو تنظيم هلامى وغير محدد الملامح، كما أنه ليس تنظيما بقدر ما هو مجموعة عمليات لا نعرف من يمولها ومن يرعاها، ولكن ربما نعرف من يستيفيد منها.
ووفق هذه الفرضية، أقول أن المجتمع الدولى الذى كان يضع حقوق الإنسان فى حساباته فى أية عمليات تفاوض تتم على المستوى الدولى، أصبح، فى مرحلة انتقالية لاحقة، يستخدم لغة الثقافة والحضارة كلغة تفاوض من خلال ربطها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان هذا يتم فى الغالب فى العلن وعلى المستوى السياسى. ولكن فى مرحلة داعش الراهنة، تراجع الحديث الواعد حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، واحتلت الساحة المؤسسات العسكرية والأمنية حاملة معها الإرهاب كغطاء ووسيلة، أما التفاوض فقد أصبح هناك تحت الأرض حول داعش ومن خلالها. وهذا هو المأزق الذى نواجهه الآن، فلم تعد الحكومات المحلية هى فقط التى تضيق ذرعا بحقوق الإنسان والتنمية، بل المجتمع الدولى كذلك. وصارت تحالفات واستثمارات الحروب هى التى تحكم شكل وجوهر النظام العالمى.