بدأت القصة تخرج الى النور منذ حوالى 80 عاماً … لتصف لنا المشهد كالتالى: يقف المئات فى قطارات سكة حديد حلوان لزيارة دير العريان، والمقصود به دير انبا برسوم العريان والذى كان يعتقد اغلب الزوار أن طيفه يظهر فى يومى عيديه فى قبة الدير وهما ينظرون اليه ويكثرون من الهتاف له والدعاء… هكذا وصف توفيق حبيب الكاتب الصحفى فى كتابه “انبا برسوم العريان وآخرون” شكل الإحتفال فقال عنه أنه عيد مصرى وطنى حقاً يلتف حول القديس المئات من المسلمين إلى جوار المسيحيين وكانوا يقولون أن هذا الرجل ولى من أولياء الله الصالحين أسمه “سيدى العريان” وكانوا يعتقدون فيه الشفاعة ويقدمون له النذور من الشموع والذبائح وينصبون حول ديره الخيام فى مولد كبير ويبيعون الحلوى والأطفال يلعبون ويركبون المراجيح والالعاب، وكان المسيحيين والكهنة لا يعارضون ذلك بل كانوا يتقبلون المشاركة فى الإحتفال بكل ترحيب… غير أنه من خلال القراءة فى الصحف تبين أنه عندما أخذت الإحتفالات شكلاً مفرطا فى الترفيه أعترض بعض الاقباط فى خمسينيات القرن الماضى على هذا الأمر رغبة منهم فى عودة الإحتفال لمظهره الدينى فقط، وأطلقوا الكثير من الدعوات على صفحات الجرائد القبطية، وربما كان هذا سببا فى تحويل شكل الإحتفال ليشمل الأقباط فقط.
وبرسوم العريان الذى أشتهر الدير بأسمه هو قديس مصرى من أهل القرن الثانى عشر للميلاد وكان أبوه “الوجيه مفضل كاتب شجرة الدر” ووالدته من بنات التبان، ولما مات والده أستولى خاله على ماله فتركه برسوم وقصد كنيسة مرقوريوس بحارة البطرك وسكن مغارة مظلمة تحت الأرض مدة عشرين سنة وكان طعامه فولاً مبلولاً بماء مالح، ثم خرج من المغارة إلى الكنيسة صابراً على الحر والبرد حتى أسود جلده، وفى الإضطهاد الذى حدث أيامها قبض على برسوم أسبوعا ثم أفرج عنه فقصد دير شهران وأقام فوق سطحه شبه عاريا نحو 17 سنة وشهران هو الأسم القبطى القديم للمعصرة والتى وصفها الشيخ المؤتمن أبو المكارم سعد الله بن جرجس ابن مسعود فقال: “وشهران قرية كبيرة كانت عامرة على شاطئ البحر، ويذكر أن موسي النبى عليه السلام ولد فيها ومنها ألقته أمه إلى البحر فى تابوت خشبى، وشهران من المزارات الجليلة المقصودة لحسن وضعها وإشرافها على النيل”
وكان فى شهران دير معروف بأسمها وكان له بستان مساحته تسعة أفدنه يقصده الأعيان للنزهة والرياضة وذلك قبل ان يعرفوا مصايف لبنان والرمل ودوفيل، وكانوا يقصدون الدير أيام الصيف للتمتع بالنيل ونسيمه العليل فى زمن الفيضان وسمى دير شهران فيما بعد بأسم دير انبا برسوم وعمره البابا كيرلس الخامس حتى انه أنشأ فيه قصرا كان يقيم فيه طوال فترة الصيف ويوجد بالدير مجموعة من أشجار النخيل والجميز يرجع تاريخها الي مئات السنين، كما تم اكتشاف بئر اثري في عهد نيافة الانبا بولس أسقف حلوان عندما كان يقوم بتجديد بعض مباني في الدير، والبئر ذو فوهة من حجر الجلمود الأحمر الذي لا يتأثر بالماء وفمه مغطي بطبقة من البلاط المعصراني السميك ويرجح ان هذا البئر كان خاص بالرهبان الذين كانوا يسكنون في هذه البقعه الطاهرة عندما كان الدير عامراً بهم .
ويقول العلامة المقريزى عن وصف الدير ” هو مبنى بالحجر واللبن، وبه نخيل، وعدة رهبان، ويقال إنما هو دير شهران وان شهران كان من حكماء النصارى. وقيل عنه أنه كان ملكاً، وكان هذا الدير يعرف قديما بمرقوريوس الذى يقال له مرقورة ولما سكنه برسوما بن التبان عرف بدير برسوما، وله عيد يعمل فى الجمعة الخامسة من الصوم الكبير، فيحضره البطريرك وأكابر النصارى وينفقون فيه مالاً كبيراً”.
ودير مرقوريوس تأسس في القرن الخامس الميلادي وعند تأسيسه كان يقوم مباشرة علي ضفاف النيل كما هو الحال بدير العذراء بالمعادي ، اما الأن فقد انحسر عنه ماء النيل غرباً إلي مئات الأمتار ، ثم اهمل وتخرب بمرور الزمن حتى سكنه انبا برسوم العريان وكانت تبلغ مساحة الدير حوالي تسعة أفدنة.
أما عن تاريخ المنطقة التي يقع بها الدير وهي المعصرة بحلوان، فكانت حلوان قديمًا يطلق عليها اسم حلوان البلد التي كانت تقع علي الشاطئ الشرقي من النيل بين غابة كثيفة من أشجار النخيل، وأطلق عليها بعد ذلك حلوان الحمامات فهي إمتداد لحلوان البلد وكانت مبانيها تمتد من شاطئ النيل إلي سفح الجبل الشرقي، ويذكر أن حمامات حلوان بنيت في العصر الفرعوني ثم اندثرت وأعيد بناؤها في العصرين الروماني والعربي، فحلوان كانت تتميز بالعيون الطبيعية، ويحكي أن أول من اكتشف تأثير هذه المياه علي شفاء المرضي هم جنود جيش عباس باشا الأول حين عسكروا بالقرب من حمامات حلوان وأصيب البعض منهم بالجرب واتفق أن أحدهم اغتسل في مياه إحدي العيون فشعر بتحسن في لون بشرته فأعاد الكرة حتي نال الشفاء فلما سمع زملاؤه بذلك ذهبوا إلي العين واستحموا فيها فأختفت أعراض أمراضهم رويداً حتي عاد جميعهم أصحاء، ومن ثم أخذ الناس يتحدثون عن هذه الينابيع الطبيعية ومقدراتها العلاجية حتي تولي حكم مصر الخديوى اسماعيل فأوفد إلي حلوان سنة 1868 م بعثة من الأطباء والعلماء برئاسة الدكتور “سالم باشا” لمعرفة حالتها الجوية وتحليل مياها المعدنية، فعاد المبعوثون إليه يمتدحون طقس المدينة وصلاحية عيونها في علاج الأمراض التي تحتاج إلي عناصر كبريتية، فأخذ الخديوي برأي رجاله وامر سنة 1869 م ببناء الحمامات التي وضع تصميمها المهندس بوتيجللي وشيد بجانبها الاستراحات الفاخرة .