قراءة فى ملف«الأمور المسكوت عنها«(٣٥٥)
الأحزاب السياسية المصرية طالما تشدقت بأنه لكى يتحقق التحول الديمقراطى السليم فى مصر يجب أن يكون عماده الحركة الحزبية العفية والارتكان إلى العمل الحزبى والتنافس السياسى بين الأحزاب فيما يخص إنتماءاتها وأيديولوجياتها وبرامجها…وأن ذلك الهدف يتعارض تماما مع المعايير الفردية التى تعلى من الأشخاص وبريق الأسماء ومراكز القوى.
لو تحقق ذلك فى حياتنا السياسية لكان ترتب عليه وضوح ويسر فى اختيارات المواطن بدءا من الحزب الذى يرغب فى الانضمام إليه إلى البرنامج السياسى الذى يؤيده ووصولاً إلى قراره فيمن يحصل على صوته الانتخابى أمام الصندوق…ولا غرابة، فالمتابع لنتائج الانتخابات فى الديمقراطيات الراسخة فى العالم من حولنا اعتاد أن يسمع عبارات مثل: »فوز تيار اليسار ليحل محل تيار اليمين ويزيحه عن السلطة«…أو مثل:»تحول فى مزاج الناخبين وانحيازهم لتيار الوسط وبرنامجه السياسى فى الانتخابات«…أو مثل»ائتلاف اليمين مع الأحزاب الراديكالية لتكوين أغلبية برلمانية«…وغير ذلك من العبارات التى تعكس قوة التيارات الحزبية والفروق الواضحة بينها أمام المواطن والناخب والتى تمكنه من الانحياز لأى منها وتعضيده وترجيح كفته دون غيره.
ووسط هذا كله تتراجع الأسماء والنزعات الفردية إلا فيما يخص التنافس على زعامة الحزب والتعديلات التى تطرأ عليها فى انتخاباته الداخلية،لكن كل ما يتصل بالعمل السياسى أو البرلمانى أو صندوق الاتنخاب يكون فيه الحزب مرتكزاً على هويته السياسية وموقعه بين تيارات اليمين والوسط واليسار وبرامجه وسياساته التى تفرزها تلك الهوية.
الآن وقد وضحت بشكل كبير ملامح الانتخابات البرلمانية التى نحن بصددها لانتخاب أعضاء أول مجلس أمة مصرى بعد الدستور الأخير،أين نحن من هذا كله؟…الحقيقة أنه يتواتر علينا الكثير من أسماء الأحزاب الفاقدة لأى انتماء سياسى واضح والمفتقدة لأى برامج سياسية تتنافس حولها والعارية عن أى تواجد حقيقى فى الشارع وسط الجماهير..وفى المقابل هناك حشد هائل من أسماء المرشحين-لا نعرف هل هم حزبيون أم فرديون!!-تموج بهم ساحة التنافس الانتخابى ويصدرون صخباً وضجيجاً للإعلان عن أنفسهم…أما المواطن صاحب الكلمة الأخيرة لترجيح أحدهم عن الآخر فى الصندوق فلا يملك إلا المفاضلة بينهم على أساس الأسماء…ثم الأسماء…ثم الأسماء…ولا شئ سوى الأسماء!!!
إذاً…دعونا نعترف أن مصر فى هذه المرحلة ماتزال بعيدة عن التحول الديمقراطى الحزبى،وأن الإسراف غير المحسوب فى إرسال نحو تسعين حزبا إلى دائرة الممارسة السياسية بلا أى ضوابط أو تنظيم لم يسفر عن تعددية نتشدق بها ولا عن نضج سياسى نبتغيه إنما أفرز واقعاً هشاً هزيلاً،وترك المواطن حائراً عاجزاً عن المشاركة،وعادت أوراق اللعبة القديمة تسيطر وهى أوراق الأسماء وقوتها وثقلها…ومعها تعود القبلية والعشائرية وكبار العائلات ومراكز القوى.
ولمن لم يدرك مغزى ما أقول دعونى أعطيه مثالاً:فى أية دائرة انتخابية بعينها كيف يختار الناخب المرشح الذى يعطيه صوته؟…ما الفرق السياسى أو الأيديولوجى أو اختلاف البرنامج بين هذه المسميات: »فى حب مصر«،»الصحوة الوطنية المستقلة«،»مصر بلدى«،»صحوة مصر« وغيرها من المسميات التى تزدحم بها الساحة؟..للأسف لا شئ،فكلها كيانات ترفع شعارات عظيمة ودعوات براقة من أجل نهضة مصر لا يختلف عليها أحد،وكلها نجحت فى تقديم باقات من المرشحين والمرشحات ذوى السير الذاتية والثقل المرموق والوضع الاجتماعى الملفت…إذاً لا يملك المواطن إزاء ذلك كله إلا أن يحسم اختياره بناء على معايير شخصية بحتة لمنح صوته لمن يستحوذ على هواه الشخصى فقط!!!…ومن بدأ فى متابعة النقاشات الدائرة بين المصريين فى كل مجلس سوف يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الهوى الشخصى والقبول يقفان وراء ترجيح مرشح عن آخر…هذا وسط أسماء الشخصيات العامة،أما إذا ذهبنا إلى المحليات بعيداً عن القاهرة والمدن الرئيسية فسنكتشف كيف أن الأمور محسومة ومرجحة لصالح رؤوس العشائر وكبار العائلات وزعماء القبائل!!!
لذلك لا يستطيع أى حزب بعينه أو تجمع يطلق على نفسه»ائتلاف« أن يتنبأ بنتيجة السباق الانتخابى ولنعترف جميعا أننا وإن كنا شغوفين بأداء الواجب الوطنى الانتخابى إلا أننا ننتظر بلا حول ولا قوة ما سوف تسفر عنه الانتخابات وكيف سيتم حسم الأغلبية البرلمانية التى ستقود العمل البرلمانى وهل ستقف أمامها معارضة قوية؟كيف سيكون تشكيل أول مجلس أمة مصرى بعد الدستور؟وماذا سيفعل فى الدور التاريخى المنوط به؟…كل تلك أسئلة دقيقة تقف رهن الأسماء…والأسماء…ولا شئ سوى الأسماء!!!