اقترب الفريسيون من يسوع، من نور العالم، لا لكي يستنيروا بل لينتقدوه ويرفضوه ويحرجوه أمام محبذيه: “هل يحل للزوج أن يطلق امرأته؟” واليوم كثيرون من المسيحيين يتساءلون، جاعلين من سهراتهم منبراً للدفاع عن حرية مزيفة وحق مغلوط في الزواج، مبتعدين عن مفهومه وأبعاده السامية والحب محركه الجوهري.
فأصبح السؤال على الألسنة: هل ستسمح الكنيسة يوماً بالطلاق؟ وكان جواب يسوع سؤالاً عما كتب في الكتاب المقدس: “بماذا أوصيكم موسى؟” قالوا له ما حفظوا من هذا الينبوع يدغدغ شهواتهم “أن موسى رخص أن يكتب كتاب طلاق وتسرح” فذكرهم بمجمل تعاليم وبروحانية الكتاب البعيدة عن التفكير الدنيوي: “من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. فمنذ بدء الخليقة جعلهما الله ذكرا وأنثى ولذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ويصير الاثنان جسدا واحدا، فما جمعه الله فلا يفرقنه الانسان. “
يتكلم المسيح عن الخليقة كما ارادها خالقها تعالى، يكمل الواحد الآخر حتى بلوغه الكمال المبتغى. والاثنان في مسيرة، هدفها النضوج الروحي. وقد خلقهما ليتحاباويكثرا ويتكاملا. لذلك يتركا كل عزيز وغال خاص في تكوينهما وفي مجتمعهما ليكونا هذه الخلية حيث صورة الخالق ستتألق في خلائق متجددة.
بالتعمق في جوهر هذا السر، يستطيع الإنسان، متعالياً عن الشوائب التي تعيق تفكيره، استيعاب هذه المؤسسة السماوية وتقديرها لما يكمن فيها من حب خالص لا حدود له إلا ما هو لخير الزوجين والبنين، ثمرة حبهما السامي.
والعقل السطحي يفسد الحقيقة ويشوهها، مهما عمل النعمة في النفوس. يسوع جعل من صيادي السمك رسلاً، ومن المضطهدين مبشرين، ومن الرعاة أنبياء، ومن الزانية قديسة، ومن اللص وارث الملكوت. بنعمته لا تتوقف امام الزمان والمكان، تبقى دوماً مسكونية. الشاب والشابة يتركان سقف الوالدين ويتساكنا، ويبدآن حياتهما الخاصة. هذا يتطلب مقاطعة الماضي، والاتكال على سواعدهما، وتوسيع قطر محبتهما الواحد للآخر. هذا لا يُحد المحبة بل يضرمها إلى مستقبل المجتمع وازدهاره وتطوره. “يترك أباه وأمه” لا يعني أنه يجب عليهما نسيان كل ما تكبدا من تضحيات لأجل بلوغهما سن الرشد، وأن ينكرا الجميل. عليهما الزوجان أن يعيشا مستقلين حياة جديدة، وخبرات متجددة،وابداع، بحسب علامات الروح. فكما أن الثمرة لا تستطيع ذكر أن فضل الشجرة عليها، وهكذا لا يستطيعان نكران فضل الوالدين في تنشئتهما.. عليهم رد الجميل بجميل أكبر.
وهذا يتطلب من الزوجين أيضاً التغير نفسياً، وتقبل نمط حياة مسئولة. بوعدهما الواحد للآخر أمام الكنيسة يؤلفان مجتمع مصغراً، أساس المجتمع البشري. فهما لا ينشئان مؤسسة تجارية تُصمم وتُشتري وتُباع عند الحاجة، بل مؤسسة قوامها المحبة والتضحية. وعلاقتهما ليست علاقة تجارية بل علاقة نفسية تقلب المفاهيم الدنيوية لأنها في مفهوم الزواج المسيحي، عطاء فقط.
والزواج المسيحي ليس اتفاقاً لربح ما، فإذا ضعف الانتاج، ووجد فرصاً أفضل منه يُفسخ. الزواج المسيحي ليس متعة وشهوة، فإذا ضاعت، فسخ الرباط. الزواج المسيحي ليس مؤقتاً وكأن الطرفين سلعة تُشترى للذة وتباع لأنها ذبلت. الزواج المسيحي ليس حسياً نتمتع به، بانتظار أبهى منه، لنرميه في سلة النسيان.
وعلى الإنسان المعاصر التعاطي مع سر الزواج من مفاهيم وتعاليم يسوع وكنيسته له. فالإنسان هو قيمة بحد ذاته. احبه الله منذ الأزل. وخلقه الأب على صورته ومثاله وفداه الابن بدمه وسكنه الروح القدس. اختار الله الانسان الذي شوه صورته، ليسلك درب الكمال والقداسة. ويسوع يركز على المحبة التي هي ركيزة أعمال المسيحي، ومن أنبلها، الزواج الذي رفعه الفادي إلى مقام الأسرار. المحبة الصادقة هي الوحيدة التي باستطاعتها الإجابة على الصعوبات التي تعترض الزواج المسيحي المترابط والمتماسك بين الزوجين.
المحبة تصبر والحياة الزوجية المسيحية اليوم هي بحاجة ماسة إلى الصبر والانتظار، لأن تكوين الإنسان الكامل يتطلب وقتاً والمسيح هو المثال الوحيد للزوجين، وقد أحب الكنيسة وأعضاءها بضعفهم وخطيئتهم.
المحبة تخدم والحياة الزوجية هي نسيان الذات لخدمة الآخر. والمسيح قدوتنا، يوم العشاء السري قال: “إذا كنت أنا الرب قد غسلت اقدامكم، فيجب أن يغسل بعضكم أقدام بعض”
الحياة الزوجية هي عمل جماعي، معا نتقدس اما معا نهلك في أنانيتنا. فالملكوت هو عمل جماعي. “المحبة لا تفعل ما ليس بشريف ولا تسعى إلى منفعتها” والكل في هذه الكنيسة المصغرة وأحدهما هو سند للجميع والجميع هم قوة الفرد.
المحبة لا تحنق ولا تبالي بالسوء. تدرك أن الانسان معرض للزلات والرب يقبل التائبين، ومنهم بخطيئته تطلع إلى المصلوب فتابع مسيرته بثبات ومنهم من تطلب الوقت الطويل للنهوض واتباع المعلم.
المحبة لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق. وليس من ظلم اكبر من أن نفرض على الغير ما صعب علينا تحمله. والحق بتطلب وقت ليبهر الملأ. والحياة كلها اكتشاف بطئ للحقيقة أي الله. المحبة تعذر كل شئ وتصدق كل شئ وترجو كل شئ وتتحمل كل شئ. في هذا الكنيسة المصغرة كلنا بحاجة لمن يعذرنا ويصدقنا ويرجو لنا كل صلاح وخير. والمحبة أمينة في الأفراح والأتراح والوسيلة لإسعاد العائلة ولشد رباطها وتوطيده.
الفرد أعطيت له وزنة لتثمر أعمالاً خيرة للبشرية وللملكوت “كان الجميع الذين أمنوا جماعة واحدة، يجعلون كل شئ مشتركاً بينهم.. ويتقاسمون الثمن على قدر احتياج كلاً منهم، يلتزمون الهيكل بقلب واحد”