فى 12 يوليو تحل الذكرى الطيبة لرحيل المحبوب والمِعطاء د. سليمان نسيم، الذى كان قد أنتقل فى يوم الأحد 12 يوليو 1998، وفى أنتقاله كانت هناك العديد من الإشارات السمائية المفرحة.
أنتقل فى يوم الأحد الذى هو يوم الرب، وايضاً فى عيد الرسل، وحلت ذكرى الأربعين فى تذكار الأرشيذياكون حبيب جرجس وفى عشية صعود جسد السيدة العذراء مريم. هذه التذكارات الأربعة يربط بينها عامل مشترك واحد هو عنصر “العطاء”. ففى يوم الأحد الذى هو تذكار القيامة المقدسة فى هذا اليوم اُعطى للبشرية رجاء فى القيامة وحياة الدهر الآتى. وعيد الرسل هو عيد العطاء والبذل والتضحية من أجل الكرازة بالكلمة. وحياة الأرشيذياكون حبيب جرجس كانت كلها عطاء ويقول عنه د. سليمان نسيم أنه كان صديقاً للأنجيل، وأباً للخدام، وكاروزاً للأسرة، ومُعلماً للأطفال، وخادماً وعميداً للأكليريكية والأكليريكيين. والسيدة العذراء مريم حياتها كلها عطاء ومن خلالها وُهب للعالم أن يتجسد الأبن الكلمة ويأخذ كل ضعفات الإنسان ويمنح الإنسان فداءً أبدياً.
فالإشارة الخفية التى نستخلصها من هذه الأحداث أن خدمة الدكتور سليمان نسيم تميزت بالعطاء الملتحف بالتقوى. لذلك نجده فى عطائه سخاءاً، كما نجد فى عطائه أهتمام واضح بقيمة النفس البشرية، مما جعل له جاذبية خاصة وشخصية إنسانية محببة. فنجد فى سؤاله عن المريض لم يكن يكتفى بالسؤال ولكنه كان يضيف إلى سؤاله كلمات مشجعة بالإضافة إلى باقة صغيرة من الزهور تشيع جو من الفرح والأمل. فى بحثه عن الذى ضل طريق السمائيين كان يتلمس جميع السُبل الممكنة للوصول إليه وإعادته إلى حظيرة البنين. عندما كان يكتب أو يتحدث عن المسيحية كان يتناول الموضوع من منظور عطائها للعالم، وعندما كان يتحدث عن الكنيسة فإنه يتكلم عن عطائها للمؤمنين، وعندما كان يتحدث عن الأقباط فإنه يتكلم عن عطائهم للوطن. لذلك عنصر العطاء كان يشغل فكره ومن السهولة كنت تكتشفه فى كتاباته المتعددة التى يصعب حصرها.
فعطاء المسيحية للعالم نجده فى قوله: لقد جاءت المسيحية فأرست قواعد التوحيد بعد تعدد الآلهة عند الوثنيين فأصدرت قانون إيمانها: نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض …، كما أنالمسيحية أرست قواعد المحبة والآخاء، فمنذ أن تأسست الكنيسة المسيحية بدأ حكم المحبة على الأرض ويذكر يوسابيوس المؤرخ المعروف: بأن المجتمع المسيحى سادت عليه عواطف المشاركة الأخوية. فقد كان تلاميذ المسيح يبيعون أملاكهم ويأتون بإثمانها ويضعونها عند أقدام الرسل ليأخذ كل واحد حسب أحتياجه (أعمال 4: 32). فالإشتراكية الصحيحة الأولى أسسها المسيحيون فى أوائل العصور.
ثم عند حديثه عن الكنيسة القبطية فإنه كان يتناولها من عدة زوايا. فمن خلال مدرسة الإسكندرية نجده يقول: كانت مركزاً لأشهر مفكرى العصر، كما كانت عقل العالم المسيحى فقد قامت بنسخ نصوص الأنجيل ونشرها، وفى القرن الرابع أعتبرت أم الكنيسة وأم القديسين وأعتبر باباواتها قضاة المسكونة وقادة الفكر المسيحى.
كان د. سليمان نسيم يجد متعة فكرية عندما يتحدث عن التربية القبطية التى كان يرى أنها عاملاً أساسياً فى حفظ تراث المجتمع المصرى إذ أن فلسفة التربية المسيحية كانت تقوم على العناية بالطفل الذى هو ركيزة المجتمع. وهنا نجده يقول: لقد كانت فلسفة المجتمع اليهودى والمجتمع اليونانى والمجتمع الرومانى ناقصة إزاء الطفولة، فلما جاءت المسيحية وأكرمت الطفولة وجعلتها مثلاً أعلى للطهارة والإيمان بل كشرط أساسى لدخول الملكوت (متى 18: 4).
وعندما تحدث عن عطاء الأقباط للوطن، قال: الأقباط أول من نادوا بتعليم المرأة. فقد كان هذا فى القديم يُعد جريمة، فجاء الأقباط بزعامة راعيهم البابا كيرلس الرابع أبى الإصلاح فأسس أول مدرسة للبنات بحارة السقايين. كان الأقباط أول من نشروا كتاتيب تحفيظ الأنجيل التى كان لها الفضل الأكبر فى تنشئة كبار علماء الأقباط، وهذه الكتاتيب تطورت الآن إلى ما يُسمى بمدارس الأحد. كان للأقباط دور فعال فى ميدان الفن والموسيقى والتدريب المهنى.
ثم نجده يوجه أهتماماً خاصاً للفترة (1879 – 1924) التى هى بعد عصر الخديوى اسماعيل. فيذكر أن عطاء الأقباط فى تطوير الثقافة والتعليم أخذ أربعة أشكال:
(1) الشكل الأول وهو التعليمى العام الذى تجلى فى تأسيس المدارس العامة والفنية الصناعية وأنتقاء العاملين عليها من مديرين ومدرسات ومدرسين ممن كان لهم جميعاً أكبر الفضل فى الدفع بالحركة التعليمية إلى الأمام بالإضافة إلى الأهتمام بالتربية الدينية.
(2) الشكل الثانى وهو التعليم الدينى الخاص الذى تجلى فى إنشاء المدرسة الإكليريكية سنة 1893 وبدء حركة مدارس الأحد بالكنائس والجمعيات وإنشاء مدرسة الرهبان اللاهوتية بحلوان فى أوائل القرن العشرين ثم إصدار العديد من المجلات الدينية الخاصة.
(3) الشكل الثالث وهو الثقافى العام الذى تجلى فى إنشاء الصحف والإسهام فى إنشاء الجامعة الأهلية فضلاً عن المشاركة فى حركة التأليف والترجمة والنشر وهى الحركة التى أقترنت بإحضار المطابع من أوروبا وإقامة المعارض والمتاحف وفى مقدمتها المتحف القبطى بمصر القديمة وكذلك إنشاء المكتبات وإصدار التقاويم السنوية.
(4) الشكل الرابع وهو الإجتماعى والذى من مظاهره تأسيس المجلس الملى العام والمجالس الفرعية لخدمة النواحى الإجتماعية والتعليمية. إنشاء المؤسسات الخيرية متعددة الأغراض كالجمعيات والمشاغل ودور الإيواء الخيرية والمستشفيات. إقامة النوادى التى كان لها أكبر الأثر فى جمع الكثير من المهتمين بالأحوال الإجتماعية، وإتاحة الفرصة لهم لمناقشتها فضلاً عن خدمة الشباب وتوجيههم التوجيه التربوى السليم. ثم إقامة المعارض والأسواق الخيرية لخدمة أغراض البر.
ثم برؤية وطنية صادقة ينظر لعطاء هام قدمته الكنيسة القبطية لمصر هو صيانة شخصية مصر وتراثها الروحى والفكرى والفنى بالرغم مما تعرضت له من أضطهاد وتعذيب وهى لم تصفه بقوة أو عنف، وإنما بالفكر والحُجة من ناحية، وبطهارة السيرة ونمط السلوك المسيحى الحقيقى من ناحية أخرى.
فى الفترة الآخيرة – قُبيل رحيله المُفاجئ – بدأ د. سليمان نسيم يوجه أهتماماً خاصاً نحو قضية الوحدة الوطنية والتى تناولها فى العديد من المجلات والصحف الدينية والقومية والحزبية. فنجده يقول: الوحدة الوطنية لا تتحقق بمجرد الكلام عنها وإنما يجب أن نُربى الأجيال الآتية عليها منذ طفولتهم بتعريفهم بدور الكنيسة المصرية فى خدمة الحضارة. وأن الطفل غير المسيحى إذا عرف هذا بالتفصيل فسوف يغير نظرته إلى صديقه القبطى ويعيشان معاً منذ الصغر فى أحترام بوحدتهما الفكرية والروحية والحضارية. أن الدور الذى قام به الأقباط فى الحفاظ على القيم والمُثل العُليا يجب أن يُشار إليه فى دروس التاريخ والدين والمجتمع، كما يُشار فى دروس اللغة العربية والتاريخ الإسلامى إلى ما تركه من قيم ومُثل.
هذا هو التراث الفكرى السامى الذى تركه لنا د. سليمان نسيم تلميذ الرب الأمين وخادمه الباذل الوفى وأستاذ أجيال الخدام المتعاقبة. فى صمت أدى رسالته، وفى الموعد المُحدد مضى تاركاً لنا مثالاً للتناهى فى العطاء بتقوى حقيقية.
د. سليمان … فى تقواك الحقيقية لك أن تهتف وتقول: أحكم لى يارب لأنى بكمالى سلكت، وعلى الرب توكلت. لا تجمع مع الخطاة نفسى ولا مع رجال الدماء حياتى، الذين فى أيديهم رذيلة، أما أنا فبكمالى سلكت. أنقذنى وأرحمنى. رجلاى واقفة فى الأستقامة، فى الجماعة أباركك.
حقاً كان د. سليمان نسيم مقدماً قدوة حسنة فى العطاء الملتحف بالتقوى، وحارساً أميناً للتراث القبطى، ومشاركاً بإيجابية فى صياغة الثقافة المصرية، ومناضلاً بشجاعة تُحسب له من أجل الوحدة الوطنية. لقد كان بالحقيقة مجدداً فى الفكر المصرى عامة والقبطى بصفة خاصة.
وبعد أن أكمل سعيه بسلام أعطاه الرب الراحة الحقيقية ورحل إلى مساكن النور والفرح وترك لنا الأمانة لنستكمل مسيرة الحب بتضحية وتعب. نطلب من الرب أن يعوض الكنيسة بخدام أمناء على تراثها وطقوسها وتعاليمها وتقاليدها، أتقياء مكملين الرسالة بكل أمانة.
د. مينا بديع عبدالملك