بداً عدداً من المستنيرين الأقباط الذين يحملون بداخلهم حلم إنشاء جريدة قبطية تنطق بلسان حال الطائفة المسيحية خاصة والوطن عامة أول سطر فى التاريخ الصحفى القبطى، غير مبالين بما قد يواجهونه من دعاة الهزيمة والرجعية، وبدأوا بجمع أنفسهم، أخنوخ فانوس عن الأقباط الإنجيليين، وحليم بك غالى عن الأقباط الكاثوليك، وتادرس بك شنودة المنقبادى عن الأقباط الأرثوذكس، لإصدار جريدة قبطية وطنية، غير أنه لضيق ذات اليد ظل المشروع طريح الفراش عدة سنوات، تخللها احتراف فانوس المحاماة وحليم غالى الزراعة وابتعاد كل منهما عن الصحافة، ولم يتبق منهما سوى شنودة المنقبادى الذى باع كل أملاكه فى سبيل مولد جريدته للنور والتى صدرت بالفعل فى 22 نوفمبر عام 1895، واستهل فاتحة جريدته فكتب:
“…اللهم استمع أدعيتنا وتقبل طلبتنا، وأنر بروح الحكمة والفهم بصيرتنا، ولا تجعلنا نهتم بشئون الغير قبل الاهتمام بشئون أمتنا وإصلاح داخليتنا، ورفع راية العدالة والحرية والمساواة على ربوع أمتنا”.
وقال المنقبادى أن هدفه من إنشاء الجريدة “… نظرت إلى حالة المصريين بعين التأمل وإذ ببذور التدهور والتفكك فى طور النمو، ووجدت أنه من العار أن لا يكون للأقباط جريدة معتدلة تعمل بقلب مخلص وغيرة صادقة على خدمتهم وقيادتهم إلى المبادئ القويمة والإصلاح الصحيح”.
وتحت عنوان “الاتحاد قوة” ذكرت الجريدة: “إن أبناء الوطن يجب عليهم الاهتمام بالمصالح العامة طالما حكام الأمة يعاملون جميع أفرادها حسبما تقتضيه أحوال العدالة وقوانين المساواة… وأن أية أمة تنقسم على ذاتها مصيرها الخراب، وأى شعب تمسك أفراده بأذيال الاختلاف كان هدفاً لمخالب التطرف، فكفانا انقساماً…”.
ونشر سينوت بك حنا سلسلة مقالات فى الجريدة تحت عنوان “الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا” حتى أن الإنجليز كانوا يصفون الجريدة بأنها الجريدة الوطنية المتطرفة!!
وظلت الجريدة تؤدى رسالتها فى الوقت الذى تلاشت فيه الصحف الأخرى كالمقطم والسياسة والجريدة رغم أن أصحابها كانوا من ذوى النفوذ والمال ولكن ظلت “مصر” تؤدى رسالتها فى مؤازرة الحركة الوطنية، فحدث وأن استدعت السلطة المنقبادى وطلبت منه التقليل من الواعز الوطنى فى كتاباته حتى لا يظهر الأقباط فى موقف التضامن مع المسلمين فى الدعوة للاستقلال، فأبى المنقبادى كافة عروضهم السخية قائلاً فى وجوههم: “إن الأقباط والمسلمون إخوان مصريون وحاشا أن لا يتكاتفوا لخير وطنهم” ولاقى فى غضون ذلك صنوفاً من الاضطهاد حيث تعرض عاملوا الجريدة للاعتقال والتعذيب، وعطلت الجريدة ثلاث مرات، وحكم على المنقبادى بعدة غرامات، كما حرمت جريدته من الإعلانات الحكومية والامتيازات الصحفية، ولم تحصل على الورق الكافى لصدورها أسوة بزميلاتها الصحف، ورغم هذا استطاعت الجريدة شق طريقها وسط خضم من الزوابع.
وكانت الجريدة أول من دعا إلى إصلاح الأديرة وتعليم الإكليروس، فى الوقت الذى لم تكن فيه عبارة الإصلاح الطائفى تُسمع فى الآذان. فعلق عليها المصلحون أملاً كبيراً، إذ كان المجلس الملى حديث العهد وكانت السلطة الدينية تحاول أن تخنقه فى مهده، فانبرت “مصر” تدافع عنه وتفرغ المنقبادى تاركاً وظيفته ليجول فى بلاد الصعيد يحث ويعضد الأقباط على التمسك بالمجلس الملى حتى شكاه البطريرك إلى نظارة الداخلية فاستمال المنقبادى أنبا أثناسيوس وشجعه على قبول رئاسة المجلس لضمان تأدية رسالته، وظلت الجريدة طوال سنوات عمرها تدافع عن حقوق الأقباط، تستمع لصرخات المضطهدين، منادية برفع الظلم عنهم، وقال عنها اللورد كرومر فى أحد تقاريره: “إن الأقباط وجريدة مصر مثال يحتذى به فى الجد والاجتهاد وتحصيل العلوم، والدفاع عن حقوقهم بغير إستكانة”.ولم تستطع الرقابة الشديدة التى فرضت عليها تأييد الحركة الوطنية والجرأة فى الكتابة حتى اوقفتها الحكومة سنة 1966 بعد كفاح دام 71 عاماً.