مريم العذراء الخليقة المثلى
عناية الله الخاصة بنفس مريم وجسدها ( ١ )
عندما قرر داؤد النبي بناء هيكل جميل للرب يليق بعظمته ومقامه و عبادته، طلب من المسكونة بأسرها أن تساهم في هذا العمل الجليل، فاتجه إلى لبنان ليمده بأرزه الظليل، وإلى فينيقيا برخامها الجميل، وإلى أوفير بذهبها النقي ومعدنها النادر المثال. وبعد أن جمع من المواد الثمينة وأرفعها، اعترف صراحةً بأنه لم يستطع أن يجمع أفضل مما جمع قائلاً : ” ….. العمل عظيم ، لأن الهيكل ليس لبشر بل للربّ الإله ” ( سفر الأخبار الأول ٢٩ : ١ ) .
والله هو الذي كوّن مريم، وهيأ لنفسه مقراً بحيث يكون فيه أوثق علاقة من هيكل أورشليم، لذلك أراد بأن يكون المقر جديراً به،فلا يدخل في تكوينه من العناصر إلاّ أدقها وأجملها ومن المواد إلاّ أنصعها وأنقاها.وإذا جرت العادة في الكنائس حفظ الجسد الإلهي في أوان من الذهب والفضة، فهل يكون الله في سمو قدرته أقل عناية بمقام ابنه الحبيب، منّا نحن البشر، فيما نحن فيه من ضعف بشري، وهو يعلم بأن الكلمة المتجسّد سيظل تسعة أشهر في أحشاء مريم البتول ؟
إن ما اراده الله في بدء تكوين مريم من عناية ودقّة ورعاية، يرجع أولاً إلى الدور الذي كانت مريم تزمع أن تقوم به، عندما يحين وقت زهور المُخلّص بالجسد، بحيث إذا ما تمّت الأزمنة والآونة استمدّ الروح القدس من أحشائها العناصر اللازمة لتكوين جسم الكلمة المتجسد، الذي سيبقى تسعة أشهر في أحشائها يتغذى من صميم مواد جسدها، ويرتوي من أخلص ينابيع حياتها.
وما من شك في أن جسد مريم ودمها المكونان لجسدها سيظلان إلى منتهى الأجيال متحدين بشخصية ابن الله يسوع المسيح .
فعناية الله بجبلة وخلق آدم سببها هو : أن آدم هو صورة آدم الجدي، والمصدر البعيد الذي سوف تخرج منه بشرية المخلص. وبما أن الله الخالق اعتنى بجبلة الإنسان الأول، فلا بُدّ أن يعتني بنفس العناية بجسد مريم، ذاك الجسد الذي سوف يُهيء جسد المخلِّص، ويتجلّى فيه ذلك التشابه الملاحظ والموجود في غالب الأحيان بين الابن وأمه. وهكذا يحق القول عن مريم أكثر ما يقال عن آدم : ” إنّ الله وهو يكونها، كان يفكر بالمسيح، وتفكيره بالمسيح كان يعني المُخلّص”وفي هذا الصدد يقول بوسويه الخطيب الشهير عن مريم تلك العبارة المأثورة : ” إن الآب حتى يجعلها أهلاً لابنه كونها على مثال ابنه نفسه، وإذا أراد أن يهب لنا الكلمة المتجسد، أظهر في مريم يسوع المسيح المُخلّص المنتظر” .