حب التاريخ حب كبير يصل إلى العشق، فأنت تجد بعض الأفراد وقد اهتموا بالتاريخ إهتماماً بالغاً، وجمعوا من كتبه الكثير، وحفظوا من أحداثه ومعاركة ووثائقه ما لم يخطر على بال إنسان، وهم يتمتعون بذلك ويشعرون بذاتهم عندما يفعلوا ذلك.
تذكرت هذه الحقيقة عندما طالب الرئيس عبد الفتاح السيسى رجال الدين بثورة دينية حقيقية لتطوير الخطاب الدينى والقضاء على الإرهاب ونبذ الخرافات والخزعبلات.
تذكرت أستاذا جليلاً كان يدرس لنا فى قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة، هو الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور أستاذ تاريخ العصور الوسطى، كان ذلك فى الستينات من القرن الماضى (العشرين) كان هذا الأستاذ عاشق لعلمه، للتاريخ، يشرحه لنا كعاشق يتحدث عن حبيبته، ولأنه صادق فى عمله، فقد نقل إلينا هذا الحب للتاريخ، بل والعشق أيضا، فى محاضرته عن الشيخ السيد البدوى، قال لنا أستاذنا:
( أنتم مؤرخو المستقبل، أريد منكم أن تتوخوا الدقة فيما تكتبون وتؤرخون، وتستخدموا عقولكم فى كل شئ، وفى كل حقيقة تقرءوها ثم تكتبوها، فالبالنسبة للشيخ السيد البدوى مثلا، تقول بعض المراجع أن مريديه وبعض تلاميذه كانوا عندما يتقيأ(للأسف) يتهافتون على ما يتقيأه ويأكلونه! وهذا كلام فارغ لا يتفق مع العقل، وبالتالى يجب أن نحذفه من التاريخ، لأنه خرافات فى خرافات والإنسان العاقل لا يفعل ذلك.. هنا أريدكم أن تعملوا عقولكم وتنفوا التراث الإسلامى من هذه الخرافات).
ما زلت أذكر هذه المحاضرة لأستاذنا الجليل سعيد عبد الفتاح عاشور، لأنه أستاذا مستنيرا، كان يدعونا لاستخدام العقل، ويشرح الإسلام المستنير الوسطى الذى عاش فى مصر آلاف السنوات.
قلت لنفسى لو أن شيوخ جامعة الأزهر الأجلاء وأساتذته يفكرون ويدرسون كما كان يفكر هذا الأستاذ ويستخدمون العقل فى كتابة تاريخ الاسلام والكتب الدينية ما كنا قد وصلنا إلى هذه النتائج السيئة من جهل بحقائق الدين، وايمان بخرافات هائلة، ثم تكفير للآخرين ظلما وعدوانا، وإرتكاب جرائم القتل وذبح البشر كما الأغنام والدجاج والعجول.
يقول الدكتور عاطف العراقى عن تراث الماضى فى كتابة: التنوير والمجتمع سلسلة اقرأ:
للأسف الشديد إذا كنا نجد فى تراث الماضى بعض جوانب التقدم والازدهار، إلا أننا قد نجد فيه أيضا كما هائلا من الخرافات قد يزيد عددها على عدد سكان الجول العربية من مشرقها الى مغربها.
الفلسفة عشق آخر، ربما يكون عشق أقوى من غيره، والدكتور عاطف العراقى كان أستاذا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان رحمه الله، أستاذا جليلا، عاشقا للفكر، لا يهمه إلا البحث عن الحقيقة، إسمعه يقول فى نفس الكتاب:
( لقد دعانا مفكرونا فى الماضى الى أن ننفتح على أفكار الآخرين، دعانا مفكرنا الكندى إلى ضرورة دراسة الحقيقة بصرف النظر عن مصدرها، كما دعانا إبن رشد آخر فلاسفة العرب وعميد الفلسفة العقلية فى وطننا العربى، الى ضرورة التعرف على افكار الأمم الأخرى وما كان منها صوابا قبلناه منهم، وما كان غير الصواب بنهنا إليه ولا نأخذ به.. وابن رشد كان طبيبا، وقاضيا للقضاه كما يقول أسميه حانو فى كتابه: شخصيات صنعت التاريخ موسوعة الألف عام الجزء الأول، يقول أبن رشد فيلسوف العرب:
(الفلسفة وحدها هى الطريق إلى المعرفة والوصول الى الله، والحقيقة العقلية والاستدلال بها على الله هى أفضل من الحقيقة والمعرفة الدينية..).
عاش ابن رشد وهو العاشق للفلسفة والحقيقة بين السنوات 1126-1198 م، واهتم بشرح كتب أرسطو فى الفلسفة، وله مئة مؤلف لم يصل إلينا منها سوى 58 كتابا فقط، كانت نتيجة فلسفته التى تعتمد على العقل والفكر المستنير أن نفى خارج بلدته، وأحرقت معظم كتبه.
تذكرت هذه الحقائق وهؤلاء المؤرخين والفلاسفة العشاق الذين تركوا بصمة فكرية مستنيرة يجب دراستها من حين الى حين، واذا كان التطرف الأعمى والارهاب الأسود قد سيطر وانتصر علينا فترة وجيزة فى غيبة وجهل منا، فاننا نحتاج لإعمال العقل ودراسة الأديان دراسة موضوعية عقلية حتى نصل الى الحقيقة التى تتفق مع العقل والمنطق، فلم يخلق الله، سبحانه وتعالى، العقل لنا لنهمله ولا نستخدمه، بل خلقه لنعمله فى كل شئ.
واذ كنا ندافع عن أنفسنا ضد الارهاب بالسلاح والقوة فان ذلك لن يستمر طويلا، ولا يمكن أن يستمر، لأن العلاج الحقيقى لهذه المشكلة هو فى التعليم والتثقفيف ضد التطرف، ومعرفة حقائق الأديان الواضحة، التى هى سلاح كل إنسان، الثقافة والعقل والدراسة الموضوعية هى سلاحنا ضد الارهاب والخرافة والغيبيات. هذه هى الثورة الدينية الحقيقية.