ولد يوحنا من أبوين بارين هما زكريا الكاهن وهو من سبط لاوى ومعنى اسمه ( الله يذكر ) ومن أم تدعى اليصابات وهى من بنات هارون من سبط لاوى أيضاً ( حيث كان لزاماً أن لا يتزوج أحد اللاويين إلا من سبط لاوى ) ومعنى اسمها ( يمين الله أو الله يقسم ) .
أن كل من زكريا الكاهن وزوجته اليصابات حُرما من النسل ، حيث كان الحرمان في العهد القديم من النسل يعتبر أقصى درجات الحرمان وكان يعتبر ذلك المحروم أنه شجرة بلا ثمر ، أو أرض مجدبة ، وكان هذا مصدر حزن لهما لأن ذلك العقم كان عاراً لها .
وقد شهد الله لهما عن طريق روحه القدوس الذي يعطي الوحي الإلهي ” كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم ” ( لو 1 : 6 ) .
فطوبى للإنسان الذى يشهد الله ببره ، فقد يخدع الإنسان جميع الناس وقد يخدع نفسه ولكن لا يستطيع أبداً أن يخدع الله ، فالله هو حافظ القلوب والكُلي ، ويقول في ذلك الكتاب المقدس ” لأن الرب يفحص جميع القلوب ويفهم تصورات الأفكار ” ( 1 أيام 28 : 9 ) .
ويقول التقليد المقدس أن زكريا الكاهن والشيخ ، كان مكلفاً برعاية القديسة العذراء مريم والإشراف على كل شئونها المادية والجسدية والروحية من وقت دخولها للهيكل في سن الثالثة وحتى خروجها منه في سن الثانية عشره ” ولعل بره هذا جعله مستحقاً لأن يعطيه الله هذه الكرامة العظيمة ” .
ولنا أن نتصور مدى عمق محبة زكريا الكاهن لأمنا العذراء فيما أعطاه الله إياه من وزنات ومواهب ، ولنا أن نتصور مدى عمق محبته لأمنا القديسة العذراء مريم وأمانته في خدمتها ، وهل نستطيع أن ندرك عمق البركة التى أخذها من خدمته هذه ؟!! أو حتى من مقابلاته العديدة معها ؟!!
وقد بشر زكريا بملاك قائلاً له أن زوجته اليصابات العقيمة والتى فات أوان صلاحيتها للحمل والولادة بحكم قوانين الطبيعة لأنها كانت طاعنة في السن ، أنها ستحمل على الرغم من ذلك بمعجزة إلهية وتلد ابنه مختاراً من الله ، إذ يقول له الملاك ” أن طلبتك قد سمعت ” ، وأيضاً تستمر البشارة في فم الملاك إذ يقول “وامرأتك اليصابات ستلد لك ابناً وتسميه يوحنا ويكون ذلك فرح وابتهاج وكثيرون بولادته لأن ” غير المستطاع عنــد الناس مستطاع عند الله ” ( لو 18 : 27 ) . وهذا عكس ما قيل عن يهوذا الأسخريوطي ” كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد ” ( متى 26 : 24 ) .
لقـد كان زكريا باراً ، لأنه لم يلق باللوم على زوجته في عدم الإنجاب لأنه لم يذلك للملاك أن زوجته ” اليصابات ” عاقر ولكنه بدأ هو بنفسه قائلاً ” أنا شيخ ” وزوجتي قد طعنت في السن ، ولكنه قد طلب من الملاك أن يعطيه دليل قاطع على ما سمعه من كلام وقال : ” بم أعرف ” . وقد غاب عن زكريا قدرة الله العظيمة التى طالما ظهرت مع رجاله القديسين منذ القدم وعلى مر الأيام والعصور ، حيث تحقق ذلك مع أبينا إبراهيم أبو الآباء وكان سنه وقت ولادة اسحق ” مائة عام ” وكانت سارة زوجته سنها ” تسعون عاماً”
وقد كشــف الملاك عن شخصه وأعلن أنــه ” جبرائيل ” والذى يعنى جبروت الله ” وسر قوته أنه ” الواقف أمام الله ” ولكي يؤكد الملاك كلامه لزكريا أعطي له علامة والتي سبق وأن طلبها زكريا –وكانت هذه العلامة عقاباً في نفس الوقت إذ قال في الكتاب ” سمح الله أن يكون صامتاً ” !! وفقد زكريا ” على الفور ” القدرة على الكلام وعلى السمع أيضاً بدليل أنه جاء في الكتاب ” ثم أومئوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى ” ( لوقا 1 : 62 ) .
وقد كان صمت زكريا الكاهن آخر بركة هارونيه ذات نفع والتي ألغت كل بركة للعهد القديم كله ، وكان هذا هو الصمت الذى هو أقوى من كل كلام ، حيث أن بموجب هذا الصمت قد صمت زكريا ، صمت العهد القديم كله لأن الرب تكلم ببدء العهد الجديد ، حيث بهذا الصمت الذى أدي إلى فتح أسماعنا ولساننا لنتكلم باسم المسيح … حيث يقول الكتاب ” لم كملت أيام خدمته مضى إلي بيته ” … وبعد تلك الأيام حبلت اليصابات امرأته وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة ” هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي فيها نظر الىّ لينزع عاري بين الناس . ( لوقا 1 :23 ) .
بعد البشارة بميلاد يوحنا المعمدان بستة أشهر عاد رئيس الملائكة جبرائيل – وبشر سيدتنا كلنا السيدة العذراء مريم بالحبل الإلهي ( لو 1 : 26 – 38 ) .
وقد ورد في سياق البشارة المقدسة أن قالت مريم للملاك ” كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً “؟! فأجاب الملاك ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضاً المولود منك يدعى ابن الله وهوذا اليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلي بابن في شيخوختها وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله ” ( لو 1 : 34 – 37 ) . وللتوضيح فقط هنا أن كلمة ” نسيبتك ” هنا ليست بمعنى النسب أو المصاهرة والتزاوج وإنما بمعنى ” التى تنتسب وإياك إلى نفس الحالة ” – أى التى لها نفس حالتك – كما تحمل معنى التي تنتسب وإياك لنفس الجنس البشرى وليس جنس الملائكة والتى ينسب إليه رئيس الملائكة جبرائيل – وحيث أن الملاك يريد أن يقول هنا للسيدة العذراء – إن الله القادر أن يجعل اليصابات الطاعنة في السن تنجب ” ضد الطبيعة ” – هو أيضاً قادر أن يجعل العذراء التى لا تعرف رجلاً تنجب ضد الطبيعة – أيضاً وإن كانت الطريقة تختلف . حيث أن كلمة نسيبتك هنا أنها تفسر على أنها “من نفس جنس البشر أو من نفس حالة ضد الطبيعة في النسل ” .
وعلى أي حال – فإن السيدة العذراء وهي الصبية الصغيرة أدركت أن عليها واجباً تفرضه المحبة من كل القلب تجاه زوجة الكاهن الذى كان يرعاها حين كانت في الهيكل . فقد قامت على الفور بتنفيذ ذلك بدافع الحب وحده والدليل على ذلك أنها بقيت معها تخدمها إلى أن ولدت ابنها ( لو 1 : 56 ) وكان الحب وحده هو الدافع لهذا العمل الطيب – ولم يكن بدافع الفضول لكى تتحقق من كلام الملاك – أو بدافع الفضول لترى تلك التى حملت رغم تقدمها في السن … الخ .
فعندما سمعت العذراء كلام الملاك – تأهبت وأسرعت لتذهب إلى اليصابات حيث كانت تعيش أسرة زكريا في مدينة ( عين كارم ) كما هو معروف من التقليد – وهى تبعد عن ( الناصرة ) موطن السيدة العذراء بعشرات الكيلومترات وبرغم ذلك لم تفكر في شيء من متاعب الطريق خاصة أنها كانت في الأيام الأولى من حملها وانطلقت عبر الجبال إلى مدينة يهوذا لتخدم إليصابات .
وما أن دخلت السيدة العذراء بيت زكريا وسلمتّ على إليصابات حتى أحست الأخيرة بحركة غير طبيعية للجنين في أحشائها ( حيث الجنين في بطن اليصابات كان عمره ستة أشهر وكان له تحركاً غير طبيعياً أي أن الجنين صار يقفز ) من شدة الابتهاج حيث يذكر الإنجيل ” أنتفض الجنين في بطنها وامتلأت اليصابات من الروح القدس ” .
ولا شك أن بركات كثيرة نالها الجنين بوجود السيد العذراء بجانب أمه في المنزل طوال مدة بقائها معها نحو ثلاثة أشهر.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة من سلسلة ” المعمدانيات ” إن شاء الرب وعشنا