النصابون أيضا يستحقون الشفقة…ربما يجد البعض العبارة غريبة لكنها واقع مرير يجب التعامل معه دون سخرية أو استهزاء…كفانا قسوة بحجة ذهاب المساعدات لمستحقيها…لم نتوقف لحظة واحدة ونسأل أنفسنا كيف يقاس الاستحقاق ونحن بشر مختلفون…في البيئة والنشأة والتربية….وترمومتر الضمير المتصاعد الهابط حسب رؤانا البشرية التي قد لاتغفر ولاتري الحق حقا إلا بعد فوات الآوان…
كيف أصبح النصابون نصابين..؟؟صاروا هكذا حينما أمسوا لياليهم والبطون خاوية…حينما باتوا فوق الأرصفة يحلمون بالغطاء في ليل عاتي البرودة, وصقيع تختبئ منه جدران البيوت…حينما وجدوا الفاسدين والحرامية ومعدومي الضمائر ينعمون في الحياة طولا وعرضا بينما هم يهيمون علي وجوههم لا يجدون مأوي ولا لقمة عيش ولا عمل يناسب ضعف صحتهم أو قدراتهم المحدودة…حينما طردوهم القساة…حينما لم يجدوا الغفران في قلوب العتاة…حينما اشاح الجميع وجهه ولم يبق إلا وجه الله, وراحوا يقلدون كل نصاب كبير في هذا الوطن ربما يسدون جوع بطونهم ويتسترون خلف جدار يحميهم من أعين الناهشين.
من بضعة أشهر كتبنا هنا عن سيدة صغيرة من جوف الصعيد متزوجة من رجل مريض, سدت أبواب الصلاح في وجهها فاضطرت كل ما تملك حتي تحولت إلي بيع نفسها لتأتي لزوجها بالدواء…كيف ننظر إليها, وكيف نجرؤ علي رفع بصرنا في وجهها نلومها, أو نقيم فعلتها ونحن الذين تركناها للضياع.
تتكرر تلك المآساة في كل يوم, ولا نري, ولا نسمع إلا صوت أحكامنا القاصرة علي الناس, وضعفاتهم نقيسهم بمقياس اعوج…ونشيح الوجه عنهم قائلين هناك من يستحق أكثر من اولئك الذين لم يحتملوا التجارب..ننسي أننا ربما نكون اضعف منهم إن تعرضنا لذات تجاربهم…وأننا فقط أوفر حظا في هذه الحياة العجيبة…وكما ندين سيأتي حتما يوما ندان فيه بالكيل الذي به نكيل للمقهورين.
مثلما جائتني السيدة الصغيرة جائني ذلك الشاب الحزين…في أوائل الثلاثينات من عمره مريضا حزينا جائعا…لايملك ولا حتي بطاقة هويته…عائد من جحيم الصراع في ليبيا بعد أن فقد كل شئ…عاد من وجع الغربة وحرقة لياليها بعد أن ذاق الأمرين طوال عشرة اعوام في شوارع ليبيا تتوق نفسه لحضن الوطن…لبلدته الصغيرة الفقيرة التي ذهب إليها, فوجد أبيه قعيدا, وأخويه في البطالة غارقين…وشقيقته لاتملك قوت ابنائها…انطلق إلي المدينة ليعمل بمقهي…يكد ويشقي وينام في نهاية الليل في غرفة بوسط المدينة إيجارها لايتعدي12جنيها… ومن يتابع القصة عليه أن يتصور 12جنيه في الليلة كيف حال تلك الغرفة, وكم عدد قاطنيها.
مثله مثل شباب كثيرين…طالما حلم بعروس تعوضه حنان أمه الذي فقده, وهو ما زال رضيعا…لكن الأقدار غلبته…جاء يطلب من يدفع عنه إيجار شهر…لايجد حتي ثمن علاجه من دور انفلونزا اقعده عن العمل في المقهي, فصار طريدا أيضا..
بعد أن حاول العودة رفض صاحب المقهي, فصار مشردا عاطلا…بعد أن كان عامل سيراميك في ليبيا…حاولنا مساعدته بالسبل العادية…لكنه رفض أن تخضع كرامته لبحث الحالة..أو يظهر أمام صاحب المكان بمظهر الرجل العاجز الذي يذهب أحد ليستعلم عنه…
وبينما يرفض العودة لبلده فاشلا بعد أن ذهب كل ما جمعه في الغربة هباء علي أيدي الإرهاب في ليبيا تبقي في نفسه أحلام الصبا, وأن يعود منتصرا ورافع الرأس…لكن كيف…تحول الشاب إلي نصاب بعد فترة…لم نستكمل بحث الحالة لعدم وجود بطاقة هوية معه وفشلنا في الاستعلام عنه من الخارجية…ذهب مخذولا…ودفنا نحن رؤوسنا في رمال الكذب علي أنفسنا, وأن أوراق البحث أهم من الشخص ذاته وحاله الذي نراه امامنا.
بعد فترة عاد وإذا به صار نصابا…عاد ليقول لي جملة واحدة:صرت نصابا لأنني لم أجد أحدا إلي جواري يشعر بالآمي…اذهب وانصب علي من يصدق…انصب بدافع الاحتياج…انصب لاعيش لاقوت نفسي…لم أجد عملا…لم أجد شخصا حنونا…الكل يتشكك في الكل…الكل حريص, خشية أن أكون نصابا أو رد سجون, أو خارج عن القانون, أو حتي إرهابي…
هل علمتم الآن كيف صرت نصابا؟؟هل ارتاحت قلوبكم حينما صرت نصابا؟؟هل رأيتم من قبل نصابا يأتي ليخبركم أنه صار نصابا؟؟نعم أذهب وأقول فقط أنني محتاج, وأروي قصصا من وحي الخيال…قصصا تقطر مرا فالناس تصدق الكذابين أكثر من الصادقين…الناس لاتطلب أوراقا تثبت لهم أنني أعاني من الأيدز, وزوجتي تركتني ولاتطلب أوراقا لتتيقن من أنني تعرضت لسطو إرهابي في طريق مظلم, ولم ينصفني القانون.
للأسف جئت بالحق لكم فلم تصدقوني فذهبت بالضلال لغيركم وصدقوني…استريحوا فقد صرت نصابا, وأعيش مستورا بالنصب !!ولن اطلب منكم شيئا بعد الآن.
أنهي الشاب كلماته المؤثرة واستدار لي أحد المعاونين ليخبرني أن ما يفعله هو تمثيلية جديدة في مسلسل النصب المتتالي الذي يمارسه!!بابتسامة ساخرة أجبته حتي لو كانت تمثيلية فكلنا مسئولين عنها…كلنا أخطأنا وأعوزتنا حكمة من عند الله…كلنا تنصلنا منه, ومن كل من هم في ظروفه بحجة أنهم نصابون ولم نمد أيادينا لهم حتي ننتشلهم.
ولكن يبقي السؤال, هل هذه مهمتنا, أم أنها مهمة الوطن الذي نحيا فيه…؟؟ الوطن الذي عليه أن يوفر المسكن والمأكل والعلاج..الوطن الذي يحمي الإنسان ويؤهله ويجلب له حقوقه…الذي يعوضه ويوفر له فرصة عمل حتي لا يتحول إلي آفة تنتشر في المجتمع وثعلبا صغيرا يفسد كل الكروم!!اسئلة لايجيب عليها إلا الوطن الصامت فمتي ينطق ؟؟الله أعلم.
إيد الحب
امتدت أيادي الحب بالمبالغ التالية:
2000 جنيه سامي يعقوب
300 جنيه سهام رمزي
500 جنيه جوزيف جبرائيل دومر
2000 جنيه فؤاد فوزي بأسيوط
600 جنيه طالبة بركة وصلاة وشفاء بأسوان
2000 جنيه جوزيف جبرائيل
1000 جنيه سامح .أ.ش