صلاة يسوع المأساوية
يُضيف يسوع طلب الصلاة مع السهر، التي سبقَ وأعطى عنها نموذجاً . البقاء ساهرين والصلاة كما صلَّى يسوع نفسه، لتجنُّب الوقوع في التجربة. التجربة هي لحظة المحنة، والتي فيها يتعرَّض التلميذ الحقيقي إلى خطر ترك معلِّمه وإلى التراجع في الإيمان . لم يعلم هؤلاء التلاميذ أنهم يعيشون اللحظات التي تُقرِّر مصير خلاص البشرية . لم يتمكَّنوا من البقاء ساهرين في الصلاة كي يستطيعوا العيش بإيمان قوي في الله هذه اللحظات الهامة والمأساويَّة . “ اسهروا وصلُّوا “، إذاً كي لا تدخلوا في خطر التراجع في اتباع المسيح عندما تصبح مأساويَّة الأحداث خطراً يُهدِّد الإيمان .
“ ثمّ مضى ثانية يُصلِّي فيردِّد الكلام نفسه . ورجع أيضاً فوجدهم نائمين “.
يقول النص إن يسوع عادَ إلى الصلاة بعدما تكلَّم مع تلاميذه . وأخذَ يُعيد الصلاة السابقة. عادَ إلى الصلاة مرَّة ثانية، وعادَ مرَّة ثانية إلى تلاميذه فوجدهم نائمين . وهنا ، يحاول الإنجيلي أن يفسِّر لنا سبب نعاس التلاميذ : “ لأن النُّعاس أثقل أعينهم ، ولم يدروا بماذا يُجيبونه “. نحن هنا أمام تفسير غريب . فذكر السبب لتبرير النعاس مضاعف.
أولاً : “ لأن النّعاس أثقل أعينهم “. للعيون وللنظر في إنجيل مرقس رمز له دلالة : فعندما يشفي يسوع العميان ، يدلُّ ذلك على فتح عيون الإيمان ؛ النظر المادي هو نظر الإيمان الذي يخترق السر . نامَ التلاميذ لأن قدرتهم على الإيمان قد تراجعت وأُثقِلت.
ثانياً : “ لم يدروا بماذا يُجيبونه “. تذكِّرنا هذه العبارة بحدث التجلِّي ، حين اقترح بطرس، ولم يكن مُدركاً معنى الحدث الذي كان شاهداً له ، بناء ثلاث خيام . يضيف مرقس : “ لم يكن يدري ماذا يقول “. نرى هنا مُجدداً عدم الفهم ، الذي جعل التلاميذ في هذه الحالة صامتين ، غير قادرين على التعبير عمَّا يعيشونه ، والذي هو المعنى الخلاصي للأحداث التي جرت أمامهم.
هذا هو نعاسهم : أنهم لم يستطيعوا أن يحافظوا على يقظة عيون إيمانهم ، وأنهم تركوا عيونهم تُثقل بسبب عدم الإيمان ، وأنهم تهاوَوا إلى حد أنهم عجزوا عن فهم المعني العميق للأحداث التي يعيشونها مع معلِّمهم.
ورجع ثالثةً فقال لهم : “ ناموا الآن واستريحوا ! قُضيَ الأمر”.
يعود يسوع للمرَّة الثالثة ( ومرقس يذكر ذلك عن قصد ) إلى تلاميذه ويجدهم نائمين . “ ناموا الآن واستريحوا “. يستمر هذا النعاس الذي يثقل الرؤية ويمنعها من فهم بُعد الإيمان. وبعد هذا السؤال الممزوج بالتأنيب والسخرية ، يقول يسوع كلمة يصعب تفسيرها ، وهي مليئة بالمعاني ، وهي تُتَرجم عادة بـ “قُضيَ الأمر” . يمكن أن تكون لهذه الكلمة دلائل عديدة .
“ قُضيَ الأمر” قد تعني : “ وصلنا جميعاً إلى النهاية “. فيسوع ، من جهته ، وصلَ إلى نضوج في قراره من خلال صلاته المأساويَّة والأليمة ؛ أما بالنسبة للتلاميذ ، فقد وصلوا إلى قمة الانحدار في عدم الإيمان فيما يخص سر الألم الذي ينتظر ابن الإنسان.
وهنالك معنى ثانٍ لهذه الكلمة ، وهو الذي كان يُستخدم في الأعمال التجاريَّة ، والذي يعني : “ استلمت ما يلزم “ ، أو “وصلني المبلغ “. فقبل قليل ، أتى ذكر يهوذا الذي قبض ثلاثين ديناراً ، ومضى على وصل الاستلام . ويهوذا نفسه ، سيشير إليه يسوع كمن “ مضى على وصل الاستلام “ ، ويأتي الآن ليُسلِم يسوع إلى أيدي الخطأة : “ هوذا ابن الإنسان سيُسلَّم، هوذا الذي سيُسلَّمه يقترب “.
هذا التفسير قليل الاحتمال، بالرغم من أن سياق النص يذكر الخائن. وقد يكون هذا الجواب الغامض يعني أن الله قد استمع صلاة يسوع وأعطاه “ وصلاً ” أنه استجاب لطلبه . ويسوع يعترف الآن بذلك.
نحن نفضِّل التفسير الأول ( يفهم يسوع ما هي الأمانة التي يطلبها الله منه ، بينما يفشل التلاميذ ، لأنهم لا يقدرون على السهر، ويتركون اليهود يُوقفون يسوع ). وهذا المعنى يبرز الموضوعين اللّذين يتكلَّم عنهما النص .
ولكن في اللحظة التي يرى فيها يسوع أنه وصلَ بشكل نهائي إلى ساعة آلامه وموته ، والتي ابتدأت بفعل الخيانة ، يأخذ يسوع قراره بشكل نهائي : “ قوموا لننطلق ! “. بعد صلاة يسوع المأساويَّة ، تُشكِّل هذه الكلمات الاتجاه الإرادي الذي به يخرج يسوع من صلاته. والتعبير “ لننطلق ” يدلُّ على أنه غير مُجبَر، بل إنه يتَّجه بحرية نحو الموت الذي ظهرَ له في صلاته كحدث مأساوي ومرفوض . سمحت الصلاة ليسوع أن يُنضج قراره : الانطلاق بإرادته لمواجهة الموت هو الحدث النهائي في مسيرة ثقته بالله الذي يدعوه “ أبـًّا ” حتى في هذه اللحظة المأساويَّة .
إنَّ مأساة يسوع أمام الموت، والتي عاشها في صلاته إلى الآب، هي حدث يُصبح مرجعاً لكلِّ واحد منَّا. ومواجهة الموت في حالة من التشاد بين الرفض والثقة في الله ، بالرغم من استمرار بعض التساؤلات، تسمح لنا أن نرى كيف يمكن أن نعيش خبراتنا المظلمة ، وحتى خبرة موتنا ، ولو كان ذلك في إطار مأساوي .
في سلسلة التناقضات التي تظهر في صلاة يسوع، نجد غنى حياتيًّا مهمًّا لحياتنا المسيحية. هنالك من جهة المقدرة على عدم تشويه صورة الله فينا والعلاقة البنويَّة التي تربطنا به، حتى أمام واقع الموت الرهيب، ومن جهة أخرى ، التعبير الحقيقي عن رفض الإنسان لواقع الموت الذي هو ابتعاد تام عن إله الحياة . ويسوع نفسه عاش مأساويَّة هذه النظرة التي تبدو وكأنَّها إلغاء للعلاقة المباشرة مع إله الحياة ، وبداية إلغاء كلالعلاقات التي تعطي طعماً للحياة. يظهر الموت كحقيقة مأساويَّة؛ ليس يسوع مثاليًّا ولا متعصِّباً ولا إنساناً خيالياً يهرب من الحقيقة.
توضح صلاة يسوع هذه أمام الموت كيف يمكن أن نعيش نحن الساعة التي فيها نرى ظلَّ الموت يقترب من حياتنا. وهي نفس الصلاة التي سنتلوها عندما نجد أنفسنا ، بطريقة لا مفر منها، أمام واقع الموت. إن مواقف يسوع هذه ، والتي نجدها على شكل حوار، هي في الواقع صلاة موجَّهة إلى الآب ، هي المواقف التي ينبغي على كلِّ إنسان مؤمن أن يتَّخذها منذ الآن في ظروف الحياة الصعبة. مواقف تخفِّف ردود الفعل العفويَّة عند الإنسان الذي يرفض مأساة الموت وظلمتَه. كما تثبِّـت هذه المواقف ثقة المؤمن الذي يتَّكل على الله ، لأنه يعلم أن الله “ أبٌ “، وأن أمر الحياة والموت بين يديه .