وإن مات يتكلم بعد (رسالة العبرانيين 11: 4)
ولما كملت أيام خدمته مضي إلي بيته (إنجيل لوقا 1: 23)
بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلي آبائه (سفر أعمال الرسل 13: 36)
سلام عليك يوم رحلت عن دنيانا متأنيا لأنك كنت محصورا من الاثنين – لك اشتهاء أن تنطلق وتكون مع المسيح ذاك أفضل جدا – أو أن تبقي في الجسد فهذا ألزم من أجلنا (رسالة فيلبي 1: 22, 24) لكن لأن الله عين لنا أجلا لا نتجاوزه, فعندما أكملت رسالتك سمح الله لك أن تغادر مكان غربتك عائدا إلي بيتك السماوي الذي وعد به السيد لأبنائه القديسين المؤمنين الأوفياء, ومع أننا لم نكن معك لحظة رحيلك, لكننا نعرف نشيد المؤمن لحظة الرحيل, والتي هي أيضا لحظة التتويج: قد جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان وأخيرا قدوضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضا (رسالة تيموثاوس الثانية 4: 6).
والذين يعرفون قدر الرجال في بلادنا يدركون أن الكنيسة المجاهدة ودعت للكنيسة المنتصرة أعز أبنائها وبطلا من أبطال الإيمان النادرين في عصرنا, بل وفي تاريخنا, مشهودا له من الجميع, لم يغره بريق المظاهر أو الألقاب أو المناصب الكنسية, بل كان في تواضعه وزهده وتقواه أرفع من كل هذه مجتمعة معا* وعندما وقف أمام رئيس البلاد يدافع عن حق الكنيسة وعن المواطنين الذين كانوا يعانون من ظلمة الجهل وظلام التعصب والكراهية ومن تصلف الوالي, وكان ذلك في حضور المجمع المقدس, كان الأنبا ميخائيل كالأسد القديس الذي كانت تخشاه أشباه الأسود وتعمل له ألف حساب.
وكان الأنبا ميخائيل مثال المواطن رجل الدين الشريف فعندما حدثت الأزمة الكبري بين قيصر وأكبر سلطة دينية في الكنيسة – تحفظ الرئيس السادات علي قداسة البابا شنودة الثالث في دير الأنبا بيشوي أراد قيصر أن يستخدم الأنبا ميخائيل لتحقيق نواياه فرفض الأنبا ميخائيل ذلك بشموخ وكرامة وأمانة الأسقف الأمين الشريف, فصرفه السلطان, وعاد الأنبا ميخائيل إلي إيبارشيته بطريقة تختلف عن الطريقة التي استقبله بها السلطان عندما ظن أن الأنبا ميخائيل يمكن أن يكون واحدا كسائر أولئك الذين يمكن أن يغرهم بريق التقرب من السلطان, وكان الأنبا ميخائيل بذلك المثل الأعلي للمؤمن الذي يحرص علي إرضاء الله أكثر من إرضاء الناس مهما كان بريق إغراء الوعد, أو إرهاب بطش الوعيد.
وهكذا كان شموخ انتماء رجل الله ومن غير كبرياء, هكذا يتكلم وإن مات, وهذا هو رجل الله الذي يرتعب أمامه فيلكس الوالي وكل فيلكس, بل إن حديث الأنبا ميخائيل أمام كل الولاة الذين مروا به كان مؤثرا لأنه كان هادفا وهذا يذكرنا بالملك أغريباس الذي عندما أنصت إلي رسالة بولس لم يكن بعيدا عن ملكوت الله.
وفي كل حوار جري مع كل فيلكس الوالي, ومع كل أغريباس الملك, وسواء كان الحوار هادئا أو ساخنا, كان الأنبا ميخائيل يحرص دائما علي أدب التعبير واحترام الآخر والإشفاق عليه حتي أنه قال مرة: نحن لا نكرههم, ولكننا نكره الشيطان الذي فيهم وظهرت محبته وعظمة غفرانه في مواجهة المعتصبين والمتطرفين الذين أقدموا علي محاولة حرق كنيسة فدمروا جزءا منها أنه علق علي بابها لافتة مكتوبا عليها: نحن نغفر.. فكان تعليق أحد العابرين: إن قوة النفوذ بالحب أقوي وأبقي من نفوذ القوة بالعنف, فالمحبة لا تسقط أبدا.
والذين لايزالون علي قيد الحياة يذكرون ما حدث في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما خلع بعض المواطنين برقع الحياء عن وجوههم وتنكروا لتاريخ الإخاء بين المواطنين علي أرض مصر التي تضم المسلمين والمسيحيين كإخوة متحابين في وطن واحد واتجهوا إلي التخريب والتدمير, فهرول بعض الوزراء والمسئولين بقيادة نائب رئيس الوزراء وبتوجيه من الوالي الأكبر للبلاد لمقابلة الأنبا ميخائيل بأسيوط لتهدئة الأمور, ووقف إلي جانب الأنبا ميخائيل ضعفي وأعلنت أنني وزملائي رؤساء الكنائس الأخري نري أن الأنبا ميخائيل هو كبيرنا في أسيوط في مواجهة الوالي الأصغر الذي حاول أن يجمع أنصاره لإخماد صوت الحق الذي كان الأنبا ميخائيل يجهر به, وأدرك الناس بفطرتهم من الذي كان صوته حقا ومن الذي كان يزيف الوقائع ويغالط الحقائق, ولاشك أن الذين هم علي قيد الحياة الآن شهود تلك الأحداث يذكرون ذلك التاريخ جيدا.
ومما يذكر أنه عندما حدثت أزمة لما أرادت السلطة المحلية أن تتبني دشمة للشرطة أمام باب الكنيسة المقابلة للمطرانية لحراستها ورفض الراعي بناءها لأنه كان – ولايزال – يعتقد أن الكنيسة ليست في حاجة إلي هذا النوع الكريه من الحراسة, لأن مثل هذه الدشم أمام الكنائس هي بمثابة إعلان رسمي أن بعض المواطنين في بلادنا بسبب انتماءاتهم الدينية يحتاجون إلي حماية حكومية في مواجهة مواطنين آخرين, مع أننا نعيش معا كمواطنين مختلفين في سلام, عبر مئات السنين, وفي أوقات الأزمات فشلت هذه الدشم في حماية نفسها, واضطرت الكنيسة لإدخال الأفراد المعينين لهذه الدشم إلي داخل الكنيسة لحمايتهم, ولكن علي أية حال بعد حوار وكتابة مذكرات تراجعت سلطات الأمن عن موقفها, ولاتزال الكنيستان المتقابلتان بلا دشمة حتي الآن, وهي حالة فريدة في كل البلاد, وكان للأنبا ميخائيل في ذلك فضل المشاركة والمؤازرة والتشجيع.
وختاما
نيافة الأنبا ميخائيل
لن أنسي ما قلته لي يوما في لقاء خاص لقد صنع الرب يسوع الكنيسة, لكن الناس هم الذين صنعوا الطوائف, لكننا سنلتقي في السماء كمؤمنين بالمسيح.
ولقد ودعناك يوم رحيلك بدموع الشوق والحنين وسنظل فيما تبقي لنا من عمرنا نتطلع إلي اللقاء عيانا بعد صبر الأيام والسنين.
ويوم لم تسمع منا كلمة وداعا, لكننا كنا نردد مع المؤمنين إلي اللقاء.. وستبقي حياتك نبراسا لكل الأتقياء من خدام الإنجيل يسترشدون بها في خدمتهم وشهادتهم. أما أنت فبكل تأكيد سمعت من السيد فور وصولك إلي هناك – ادخل إلي فرح سيدك وستظل تحية كل منا للآخر بداية وختام كل لقاء أو مكالمة تليفونية يارب سلام.. نعمة وسلامة.
القس باقي صدقة جرجس
راعي الكنيسة الإنجيلية الأولي في أسيوط